وبناء على ذلك فإننا نؤكد أن الأسباب التى رافقت الاضطرابات السياسية فى عصر الدولة العباسية الثانية هى التى أدت إلى شيوع روح التقليد، وتوقف النهضة العلمية التى شهدها العصر العباسى الأول. وهذه الأسباب هى:
1 - تدوين المذاهب الفقهية المعروفة. 2 - التعصب للمذاهب الفقهية.
3 - الرغبة فى القاضى ذى المذهب المعين ().
4 - شيوع الجدل والمناظرات المذهبية.
المبحث الثانى
اهتمامات العلماء فى هذا الطور من أطوار التشريع
سلبيات العصر وتقديرها:
غلبت على العلماء فى هذا العصر روح التقليد () ويعنى به: تلقى الأحكام من إمام معين واعتبار أقواله بمنزلة نص الشارع، بل أشد، إذ يلتزم المقلد إتباعها ويتعصب لها ويجادل من أجلها ويناظر بالحق وبالباطل، وإن خالفت نصا من نصوص الشرع تأولوا النص ليوافقها.
وحتى لا يقع فى الذهن خلط فإننا نؤكد أن فقهاء المذاهب المعروفة برآء تماما من غلبة هذه الروح على الأتباع، فأبو حنيفة كان يقول: " علمنا هذا رأى فمن جاءنا بأحسن منه قبلناه " وأبو يوسف كان يقول: " لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا " والإمام مالك يقرر أنه " ليس من أحد لا يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم "وكان الشافعى يرفض الأخذ بقول الصحابى الواحد الذى للرأى فيه مجال، ويقول: " كيف آخذ بقول من لو عاصرته لحاججته".
إذن فهى روح الضعف عن النظر فى الكتاب والسنة والاستنباط منهما وفقدان جُرأة الإقدام على الاجتهاد، بحجة عدم الحاجة إليه، أو خوف الإفتاء الخاطئ.
هذا هو المسطور فى مصنفات تاريخ التشريع، ويصدقه بعض ما ينسب إلى مقلدى المذاهب كالشيخ عبيد الله بن الحسين الكرخى المتوفى سنة 340هـ، وقد انتهت إليه رئاسة الحنفية، فقد عَدَّ من الأصول التى عليها مدار كتب الأحناف ثلاثة أصول، وإن أخذت عبارته على ظاهرها فهى آية فى الشناعة، قال:
"الأصل: أن كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها تحمل على النسخ، أو على الترجيح، والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق. والأصل أن كل خبر يجئ بخلاف قول أصحابنا فإنه يحمل على أنه معارض بمثله، ثم صار إلى دليل آخر أو ترجيح فيه بما يحتج به أصحابنا من وجوه الترجيح، أو يحمل على التوفيق، وإنما يفعل ذلك على حسب قيام الدليل، فإن قامت دلالة على النسخ يحمل عليه، وإن قامت الدلالة على غيره صرنا إليه.
والأصل: أن الحديث إذا ورد عن الصحابى مخالفا لقول أصحابنا، فإن كان لا يصح فى الأصل كفينا مؤنة جوابه، وإن كان صحيحا فى مورده فقد سبق ذكر أقسامه، إلا أن أحسن الوجوه وأبعدها عن الشبه أنه إذا ورد حديث الصحابى فى غير موضع الإجماع أنه يحمل على التأويل أو المعارضة بينه وبين صحابى مثله" ().
فبمثل هذه العبارات من أعلام الفكر الإسلامى فى هذا العصر طار القادحون، وكثيرا ما يغفل الراغبون فى زعزعة الثقة الإنجازات، ويعظمون هذه العبارات ويشيعونها، وكأنها لحمة هذا العصر وسداه.
والإمام أبو الحسن الكرخى من المجتهدين فى المذهب الحنفى، وبجهوده هو وأمثاله من الطبقة الثالثة وضعت الأسس لنمو المذهب الحنفى، والتخريج فيه، والبناء على أقواله، كما وضعت أسس الترجيح فيه، والمقايسة بين الآراء، وتصحيح بعضها وتضعيف الآخر، وبجهودهم تميز الكيان الفقهى للمذهب الحنفى ().
ومثل هذا العلم ذى الروح الخلاقة والنفس الأبية- كما يبين من سيرته- لا يعقل أن يقول قولة يقصد بها أن تكون منزلة نص الأئمة فوق النص، أو المأثور، أو تساويه، فهذا لا يقوله إلا إمعة لا رأى له.
أما المعقول فهو كما بين الإمام الشعرانى فى الميزان قال "وقد تتبعت بحمد الله أقواله- يعنى أبا حنيفة- وأقوال أصحابه، لما ألفت كتاب أدلة المذاهب فلم أجد قولا من أقواله، أو أقوال أتباعه إلا وهو مستند إلى آية أو حديث أو أثر، أو إلى مفهوم ذلك، أو حديث ضعيف كثرت طرقه، أو إلى قياس صحيح على أصل صحيح، فمن أراد الوقوف على ذلك فليطالع كتابى المذكور" ().
إذن فعبارة أبى الحسن الكرخى- وهو ممن ميزوا الكيان الفقهى للمذهب الحنفى كما بينا- تفيد أنه تحقق من أصول المذهب حتى حصلت له الثقة التامة أنها حفظت كل ما يجب حفظه من الأصول الشرعية، فتحوط لمراعاتها، وشدد على عدم نقضها بناء على ظاهر آية أو حديث أو قول صاحب، وإن جاءت عبارته موهمة ظاهرا.
¥