يوضح هذا الشواهد التى ساقها النسفى توضيحا لهذه الأصول، قال:
1 - فى الأصل الأول- فيما يخص الآية-
"من مسائله أن من تحرى عند الاشتباه واستدبر الكعبة جاز عندنا، لأن تأويل قوله تعالى (فولوا وجوهكم شطره) إذا علمتم به، وإلى حيث وقع تحريكم عند الاشتباه.
أو يحمل على النسخ كقوله تعالى (ولرسوله ولذى القربى) فى الآية ثبوت سهم ذوى القربى فى الغنيمة، ونحن نقول انتسخ ذلك بإجماع الصحابة رضى الله عنهم.
أو على الترجيح كقوله تعالى (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا) ظاهره أن الحامل المتوفى عنها زوجها تنقضى عدتها بوضع الحمل قبل مضى أربعة أشهر وعشرة أيام لأن الآية عامة فى كل متوفى عنها زوجها حاملا أو غيرها، وقوله تعالى [وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن] يقتضى انقضاء العدة بوضع الحمل قبل مضى الأشهر، لأنها عامة فى المتوفى عنها زوجها وغيرها، لكنا رجحنا هذه الآية بقول ابن عباس رضى الله عنهما أنها نزلت بعد نزول تلك الآية فنسختها، وعلى رضى الله عنه جمع بين الأجلين احتياطا لاشتباه التاريخ.
وهكذا أوضح النسفى الأصلين الأخيرين ()، وفى بيان الأصل الأول ما يوضح مقصود الكرخى، ويغنى عن الإطناب.
إيجابيات العصر:
رغم قصورهمم الفقهاء فى هذه المرحلة تجاه الفقه الإسلامى عن همم السابقين إلا أنها لم تخل من إيجابيات أفادت الفقه مادة وصناعة، ومنها:
1 - اشتغل كثير من فقهاء هذا العصر بالبحث عن علل الأحكام التى صدرت من إمام المذهب الذى يقلدونه، وكانت هذه العلل إما مختصرة أو مبهمة ومتى عرفت علة الحكم أمكن أن يقاس على الحكم نظيره من الأحكام التى لم يرد فيها نص. ولا شك أن فى ذلك اتساعا لباب الاجتهاد.
وقد قدمنا أن تعليل الحكم يحقق "تجريد النص الحاكم من قيد الزمان والمكان والمناسبة، والامتداد به، وتعدية الرؤية، وامتلاك القدرة فى التنزيل على الواقع بواسطة العقل القائس… .. فيولد أحكاما ورؤى، ويضع من البرامج، فى ضوء قيم ومقاصد النص الإلهى، ما شاء الله له الامتداد، ليحقق الاستجابة لكل جديد ومتغير، فى إطار أسس مرجعية، وضوابط منهجية تعصم العقل من التجاوز والانحراف، والإلغاء والقطعية، أو التقطيع للنص" ().
2 - استخراج أصول منهج الإمام وقواعده التى بنى عليها اجتهاده فى المسائل الجزئية والفروع التى تخرجت على طريقة الإمام، ومتى عرفت أصول المنهج وقواعده أمكن أن يضاف إلى الأحكام التى قررها الإمام الكثير مما لم يتعرض له. وقد نسبوا هذه الآراء لصاحب المذهب لأنها مبنية على طريقته.
وقد خدمت طبقة المخرجين فى كل مذهب مذهبها، غير أن العطاء تفاوت تبعا لمدى مرونة أصول المذهب، وتجردها من القيود.
فمثلا طريقة الشافعى والتى عرفت بطريقة المتكلمين لا تخضع "القواعد الأصولية للفروع المذهبية، بل كانت القواعد تدرس على أنها حاكمة على الفروع، وعلى أنها دعامة الفقه، وطرائق الاستنباط، وهذا النظر المجرد قد أفاد القواعد دراسة عميقة نزيهة بعيدة عن التعصب فى الجملة، فصحب ذلك تنقيح وتحرير لهذه القواعد" ().
بينما كانت طريقة الحنفية والتى عرفت بطريقة الفقهاء متأثرة بالفروع، فدرسوا "قواعد الأصول ليؤيدوا بها الفروع، وليصححوا بها استنباط تلك الفروع، ويدافعوا عنها، فكانت دراسة الأصول على ذلك خادمة للفروع المذهبية، لا حاكمة عليها وموجهة لها" ().
ومهما يقال فى طريقة الحنفية ومحاسنها () فإنها ولا بد أبعد عن التجريد وأقرب إلى التعصب المذهبى من طريقة الشافعية. هذا باعتبار النظرة الإجمالية.
وكما تتفاوت خصوبة المذاهب فى معالجة المستجدات بالنظر إلى تقعيد الأصول، فإنها تتفاوت أيضا تبعا لمواقفها من أصل- أى دليل – بذاته.
فمثلا قبول "العرف" دليلا يفتح مجال التخريج، وتجدد الأحكام كلما تغيرت الأعراف فى المكان والزمان، وهكذا يقال عن المصلحة وسد الذريعة إلخ.
ومن المفارقات الجديرة بالانتباه أن الفقه الأثرى- الذى تقيد بالنصوص والآثار، ونفر من الرأى إلا لضرورة- كان أقدر على مواجهة المستجدات من الفقه القياسى الذى عنى بالرأى وقيده بالاستحسان.
ونترك الحديث للإمام أبى زهرة، فهو صاحب هذا الاستقراء، يقول ما نصه "كان فقه أحمد بمقتضى- طريقته- فقها قابلا للنمو، لأنه لا يقيد إلا بفتاوى السلف وأقضيتهم، ومعانى السنة والقرآن الكريم، وما استنبطه السلف تحت ظلهما.
¥