تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد لاحظنا من الاستقراء الفقهى أن الفقه الذى يكثر فيه التفريع، ويضبط بضوابط قياسية، كالفقه الحنفى بشكل خاص، والفقه الشافعى الذى يقاربه- وإن لم يكن يماثله- يكون الضبط القياسى مفيدا له، فإذا جاء الفقه وابتلى بحوادث وجد النصوص المذهبية القياسية قائمة، وقد تكون غير مناسبة للزمان، فتقف محاجزة بين الفقيه والإفتاء بالصالح، ولذلك اضطر المجتهدون فى المذهب الحنفى بسبب ضبط الأقيسة، والتفريعات القياسية أن يكثروا من الاستحسان بالعرف، حتى وجدوا المتأخرين متأثرين بالعرف، يتحللون من بعض تفريعات الأقدمين، وأقيستهم، فيخالفونهم، ويعتبرون الخلاف بينهم وبين سابقيهم اختلاف زمان ومكان، لا اختلاف دليل وبرهان، وقد يقف المتزمتون منهم حيث كان ينبغى السير، وحيث تدفع الحوادث إلى السير.

وقد سلم من هذا الفقهاء الذين تقيدوا بالوقائع لا يفتون فى غيرها، ولا يقدرون الأمر قبل وقوعه، ولذلك كانت طريقة التخريج عندهم غير مقيدة بقول سابق من الإمام أو أصحابه المقدمين الذين تعتبر آراؤهم قريبة من آرائه، فلا محاجزات تقف فى طريق اجتهادهم.

ولقد وجدنا مذهب مالك وأحمد يسيران على الفتوى فيما يقع، على تفاوت بينهما فى قدر الاستمساك، ووجدنا خصبا فيهما فى معالجة المسائل التى تجد فى الأزمنة المختلفة على ضوء ما قال الأقدمون، وأن سبب ذلك واضح لا يحتاج إلى فضل من البيان، ذلك أن الذين أكثروا من التفريع والفرض والتقدير، ووضع الضوابط والمقاييس، قد كثرت أحكام الفروع المأثورة عنهم، والقواعد الضابطة المنقولة إلى الأخلاف، فلما جاء عصر اتباع الأئمة وتقليدهم، وعدم الخروج عن نطاق اجتهادهم كان أولئك الأخلاف مقيدين بتلك الأقوال، وبهذه الضوابط فاكتفوا بالإفتاء بها، وقد كانوا يجدون ضيقا شديدا فى تطبيقها، فكانوا يبتكرون الحيل والمخارج للتخفيف من ثقل هذه القيود، ولذلك وجدت الحيل فى المذهب الحنفى، ووجدت المخارج والحيل فى المذهب الشافعى، وكان ذلك فى أصل مشروعيته لتخفيف تلك القيود المذهبية، وجعل الأحكام المذهبية متطابقة فى العصور، لا يجد الناس فيها حرجا وضيقا، ولكن شاهت من بعد ذلك النفوس، فاتخذت الحيل طرائق لتضييع الحقوق، وأكل أموال الناس بالباطل، وتحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى، وتحريم ما أحل.

أما المذهب الحنبلى، ويقاربه المذهب المالكى، فلم تكن الفتاوى فيه إلا فى الوقائع، ولما جاء العصر الذى ساد فيه الاتباع دون الاجتهاد لم يجد المقلدون فتاوى فى كل المسائل الواقعة، واضطروا لأن يخرجوا على أقوال السابقين ومناهجهم، إذ لم يجدوا فى الأقوال لإمامهم الأول ما يقف محاجزا دون التخريج والبحث، ولذلك تجافى المذهب الحنبلى عن الحيلة والتحايل،….وقلت الحاجة إلى المخارج" ().

وللتدليل على صحة هذا الاستقراء يضرب الإمام أبو زهرة مثلا بإطار الاستصحاب- وقد عرفنا أنه بقاء الحكم على ما كان عليه حتى يقوم دليل على التغيير- فى المذاهب الأربعة، متخذا من النظرة فى المعاملات تطبيقا.

يقول فضيلته "فأخذ- الإمام أحمد- باستصحاب حال الإباحة أو العفو، أو البراءة الأصلية، وكان فيها تسهيل على الناس، واتسع بسبب ذلك هذا المذهب الأثرى الكريم لما لم تتسع له مذاهب أخرى قامت على الرأى والقياس، ذلك لأن الاستمساك بالنص والأثر، والتشديد فيهما، كما كان السبب فى تصعيب الاستنباط الفقهى، كانا أيضا سببا فى تصعيب التحريم، فكان باب المنع مضيقا كما كان باب الإيجاب غير موسع، وفى ذلك تسهيل كبير على الناس، وتوسيع لأفق التحليل.

أما الذين وسعوا طريق الاستنباط فى الشروط الجائزة والممنوعة فقد دفعتهم أقيستهم لأن يقيدوا الشروط، فكان فى ذلك ضيق فى التعامل.

أما المذهب الحنبلى الذى ضيق طريق الاستنباط فى الشروط الجائزة والممنوعة، فلم تكن ثمة ذريعة لتقييد الشروط فكانت الإباحة، وكان الإطلاق فى الإلزام بالتراضى، والالتزام" () فى إطلاق حرية التعاقد، وفى الشروط التى يلتزم بها المتعاقدان، فأقر من الشروط ما لم يقره غيره من الفقهاء" ().

3 - الترجيح بين الآراء المختلفة فى المذهب.

وكانت لهم فى ذلك طريقتان:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير