أ*- الترجيح بحسب الرواية بمعنى أن تقدم رواية أحد لرأى الإمام على رواية غيره، لشهرة الأول بالحفظ القوى والضبط التام، ومن هذا القبيل تقديم رواية محمد بن الحسن لمذهب أبى حنيفة على رواية الحسن بن زياد اللؤلؤي لنفس المذهب.
ب*- الترجيح بحسب الدراية بمعنى أنه متى تعارضت المرويات عن الإمام وطريقة استنباط الإمام للأحكام التى قالها، فما وافق الأصول والطريقة هو الراجح.
ولصعوبة هذه الطريقة فإنه لم يقم بها إلا الفقهاء المشهود لهم بالفطنة والذكاء.
4 - الترجيح لرأى إمام المذهب والانتصار له:
وهذا المسلك وإن شانه إشاعة روح التعصب، والمبالغة فى منزلة الإمام وربما النيل من المخالفين له فى الرأى، خاصة فى المناظرات التى كانت تعقد لهذا السبب، فإنه من جانب أخر أفاد طلاب العلم، إذ كان من ضرورات الترجيح عقد المناظرات، والاستدلال لمذهب الإمام، ونقض الدليل المخالف لمذهب إمامهم، وذلك لاشك مما يقوى ملكة الفقه، ويمرن على الاجتهاد، بل إن مثل هذا العمل يعد بحق ثورة فى الفقه المقارن، ولولا ما شابه من التعسف والتعصب والمبالغة، لكان ثورة علمية هائلة.
5 - شيوع المناظرات والجدل.
وخلاصة القول فإن هذه المرحلة، وإن فقدت روح الاجتهاد المطلق، فإنها اتسمت بالآتى:
1 - كانت فترة الترتيب والتنظيم لفقه المذاهب.
2 - شهدت اهتمام الفقهاء بالدعاية إلى المذاهب التى ينتمون إليها ووضعوا المؤلفات فى التعريف بأئمتهم.
3 - حوت هذه المرحلة علماء وفقهاء لا يقلون شأنا فى قدرتهم على الاجتهاد، من حيث توفر شروطه فيهم وتمتعهم بأدوات الاجتهاد، ولو لا تعصبهم لمذاهب بعينها أو انتسابهم إليها، لكان لهم شأن أخر
4 - كانت النواة التى فجرت الفقه المقارن.
5 - تقعيد القواعد الفقهية وتطوير القواعد الإجرائية والشكلية.
المبحث الثالث
المناظرات الفقهية
تعريف:
المناظرة والمجادلة بمعنى واحد، ومعناها شدة الخصومة، وأصل الجدال فى اللغة: الخصومة بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب، ثم استعمل على لسان حملة الشرع فى " مقابلة الأدلة لظهور أرجحها"، وهو محمود إن كان للوقوف على الحق، وإلا فمذموم.
وبالإطلاقين- اللغوى والشرعى- وقعت المناظرات الفقهية فى أدوار الفقه المختلفة، بل نجد لها أصلا فى القرآن الكريم، وهدى الصحابة.
وقد عرفت المناظرات المكتوبة بغرض الوقوف على الحق فى العصر الأموى، واتسعت فى العصر العباسى الأول، ومنها على سبيل المثال مناظرة الليث بن سعد والإمام مالك () فى حجية عمل أهل المدينة وتقديمه على خبر الواحد.
فقد بلغ مالكا أن الليث يفتى فى بعض المسائل بمصر بما يخالف ما عليه العمل بالمدينة فكتب إليه- بعد السلام قائلا: عصمنا الله وإياك فى السر والعلانية وعافانا وإياكم من كل مكروه ... واعلم- رحمك الله- أنه بلغنى أنك تفتى الناس بأشياء مختلفة مخالفة لما عليه الناس عندنا وببلدنا الذى نحن فيه .... وأنت فى أمانتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاء منك حقيق بأن تخاف على نفسك، وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه.
وبعد أن يسوق الأدلة التى تجعله مطمئنا إلى وجوب العمل بعمل أهل المدينة وعدم حل مخالفته- يقول ... فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك لنفسك واعلم أنى أرجو ألا يكون دعانى إلى ما كتبت إليك إلا النصيحة لله وحده، والنظر لك، والضن بك فأنزل كتابى منزلته، فإنك إن علمت تعلم أنى لم آلك- أقصر عليك- نصحا".
وكان رد الليث بعد السلام والدعاء " بلغنى كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذى َيسُرُّكم، فأدام الله ذلك لكم، وأتمه بالعون على شكره، والزيادة من إحسانه ... وفى رده على موضوع المناظرة يسلم ببعض ما احتج به مالك ويقول " ... وما أجد أحدا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا أخذا لفتياهم- فيما اتفقوا عليه- منى، والحمد لله رب العالمين" .... وبعد أن يسلم بأن الصحابة تبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر مالكا بأن الصحابة متى أجمعوا على أمر فلا يحل خلافه ... ولكن كيف إن اختلفوا؟ وقد كان، ثم إن التابعين بعدهم أشد اختلافا، وَمنْ بعدهم أشد اختلافا وأكثر، ويذكره برأييهما فى بعض فقهاء المدينة ممن جالسهم مالك والليث معا، و موافقة مالك الليث فى إنكاره على
¥