بعضهم، ولا ينسيه ذلك الثناء على أولئك الفقهاء الكرام، ثم يفند أوجه مخالفاته لعمل أهل المدينة فى المسائل التى أفتى فيها ارتكانا لما وصله عن فقهاء الصحابة والتابعين ممن نزلوا الشام أو العراق أو مصر، وأحيانا ما بلغه من كبار الصحابة الذين لزموا المدينة أمثال عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وقبيصة بن ذؤيب وغيرهم.
ثم يختم رسالته بقوله " .... وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك لما أرجو للناس فى ذلك من التفقه، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك مع استئناس بمكانك، وإن نأت الدار. فهذه منزلتك عندى ورأيى فيك فاستيقنه ولا تترك الكتاب إلى بخبرك وحال ولدك وحاجة إن كانت لك أو لأحد يوصل بك، فإنى أسر بذلك "
وكما هو واضح فإن الرسالتين تشعان حبا وأدبا ونصيحة لله سبحانه وتعالى ورغبة صادقة فى الوصول إلى الحق، ولا يمنع أى من المتناظرين أن ينزل على رأى معارضه متى بَانَ له وجه الحق، وذاك لاستقلاله الفكرى وشجاعته العلمية.
وعلى عكس ذلك تماما كانت المناظرة فى الدور الخامس من أدور التشريع، فقد كانت فى موضوعها جدلا يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب وكان الدافع إليها- غالبا- إشباع رغبة الخلفاء والأمراء، وغرض المتناظرين أمام الخلق وانطلاق ألسنتهم بالثناء عليهم، ولا هَمَّ لكل منهما إلا أن ينتصر لمذهب إمامه بأى طريقة حتى وإن أدى ذلك- ببعضهم- إلى اتهام الآخر بالعداوة ومخالفة إمامه لصريح الكتاب والسنة، وتأليب العامة عليه، وبدلا من أن تقرب المناظرة بين المتخالفين تؤجج نيران الحقد والعداء.
وقد تنبه بعض العلماء المخلصين- أمثال الإمام أبى حامد الغزالى- لذلك الداء فوضع شروطا للمناظرة أهمها: ()
1 - ألا يشتغل المناظر بالمناظرة ويترك ما عليه من الواجب المعين.
2 - أن يكون المناظر مجتهدا يفتى برأيه لا برأى غيره من الأئمة.
3 - أن تكون المناظرة فى طلب الحق.
4 - ألا يناظر إلا فى مسألة واقعة أو قريبة الوقوع غالبا.
5 - أن تكون المناظرة فى خلوة تجنبا للرياء.
6 - أن يناظر من تتوقع الاستفادة منه ممن هو مشتغل بالعلم.
المبحث الرابع
صياغة القواعد الفقهية
أولا: الأطوار والأدوار:
ذكرنا مرارا أن علوم الشريعة ترجع جميعها إلى الكتاب والسنة، بل إن أساليب النظر التى لا ترجع إلى البديهة والحس ترجع فى أسسها إلى الموحى به، وقد مثلنا لذلك فى تأسيس عبقرية الصحابة، وأنها لم تختر غير تنفيذ الشريعة، وبان لنا أنهم لم يجتهدوا جماعة عن مصادفة وحسن توفيق، وإنما اجتهدوا جماعة تطبيقا لشرع الله فى أمور الأمن أو الخوف.
كما تجلى لنا أن مصادر التشريع ترجع كلها إلى الوحى، فلا عبرة بدليل لا يؤيده الشرع، كما لا صحة لما يقال إن عمدة الصحابة فى الفتوى الاطمئنان النفسى من غير التفات إلى طرق الاستدلال، فقد كانت لهم قواعدهم المستنبطة من الكتاب أو السنة، وهو ما سار عليه من جاء بعدهم، حتى جاء الشافعى رضى الله عنه فجمع هذه المصادر وضبطها ودونها.
وما قيل فى أصول الفقه، يقال فى قواعده، فهى ترجع أساسا "إلى "جوامع الكلم" فى القرآن والسنة، حيث وردت آيات كريمة وأحاديث شريفة تشبه القاعدة فى أسلوبها وصياغتها، وذلك من حيث الكلية والشمول" ().
واتباعا لهدى القرآن والسنة استخلص السلف من الصحابة ومن تلاهم فى العصور الثلاثة الأولى "قواعد كلية" ومنها قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه "مقاطع الحقوق عند الشروط" وقول على كرم الله وجهه "من قاسم الربح فلا ضمان عليه" وقول شريح من التابعين "من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه" وقد أورد الإمام أبو يوسف القاضى عددا وافرا من القواعد الفقهية فى كتابه الخراج، ومثل ذلك نجده فى كتابات محمد بن الحسن الشيبانى، والإمام الشافعى من أئمة الاجتهاد ().
وكما رأينا من قبل فإنه عندما دعت الحاجة إلى ضبط مصادر الاستنباط ومناهجه تصدى لذلك الشافعى فجمع شتات هذه المناهج وصنفها، وكان تصنيفه استخلاصا من مناهج السابقين.
وحيث وجدت الحاجة إلى ضبط الفروع الفقهية المتناثرة شمر العلماء عن ساعد الجد وشرعوا فى صياغة فن متميز هو "قواعد الفقه" وكما نوهنا فإن فى الموروث رصيدا، ولكنه قليل العدد، مبعثر الوجود، ينقصه التنسيق، وشئ من تحرير الصياغة فقاموا بهذا الدور خير قيام.
¥