وكما ينسب لأئمة الاجتهاد شرف ضبط المناهج وصياغتها فإن من علامات عصور التقليد جمع واستنباط القواعد الفقهية وصياغتها، واعتبارها فنا مستقلا. بدأ فى منتصف القرن الرابع الهجرى وأخذ وقتا طويلا حتى صارت "القواعد موضوع علم مستقل بين علوم الفقه الإسلامى" ().
والمحصلة الأولى لدراسة أطوار التقعيد الفقهى تنتج أنه إذا كان السمت الغالب لعصر الاجتهاد هو ضبط مناهج التفكير والاستنباط فى إيجاد الحلول الجزئية، فإن سمت عصور التقليد هو الانتقال بالعمل الفقهى "إلى مرحلة التفكير الكلى لا الجزئى" ().
وأيا كان الدافع على هذا العمل () فإنه لدليل دامغ على براءة التفكير الفقهى من الجمود، وسعيه الدؤوب "لتحقيق الاستجابة للمصالح والظروف الاجتماعية للبلاد الإسلامية" ().
والجدير بالذكر أن علم "قواعد الفقه" علم حركى أخذ كل قرن منه بنصيب، وإن كان القرن الرابع قد شهد بداية جمعه وتدوينه فإن بروزه وشيوع صيته كان فى القرن السابع، حيث بدأت "قواعد الفقه" "تختمر وتتبلور يوما فيوما، أما القرن الثامن الهجرى فهو يعتبر العصر الذهبى لتدوين القواعد الفقهية ونمو التأليف فيها… .. ومعظم مؤلفاته- على اختلاف مناهجها ومناحيها- حملت ثروة كبيرة من القواعد والضوابط، والأحكام الأساسية الأخرى، وفيها إرهاص على اكتمال هذا العلم إلى حد كبير فى ذلك العصر" ().
ولم تخل العصور التالية من إسهامات قيمة، حتى كان أواخر القرن الثالث عشر الهجرى فاستقرت القواعد الفقهية تمام الاستقرار، وذلك على يد اللجنة التى شكلتها الخلافة العثمانية لوضع مجلة الأحكام العدلية "ولا بد من الاعتراف بأن الواضعين للمجلة أحسنوا فى انتقاء- القواعد- واختيارها، ثم فى تنسيقها تنسيقا قانونيا رائعا فى أوجز العبارات، حتى اشتهر ذكر القواعد، وذاع أمرها عن طريق المجلة، وارتفعت مكانتها حيث شرحت مع شروح المجلة المشهورة، وأصبح لها صدى فى كافة المجالات الفقهية والقانونية" ().
هذا أهم ما يعنينا فى الدراسة التاريخية، فغايتنا الأولى رد الفروع إلى الأصول، ونسبة الفضل إلى أهله، والتأكيد على اتصال حلقات المعرفة، واستجابة الفقه للمصالح والظروف الاجتماعية المختلفة، وذلك بهدف الرد عمليا على كل ما يثار حول الفقه- مادة ونشاطا- من اتهامات وشكوك.
ولنا فى الفصل الأخير من الباب الثالث كلام موجز حول أهم القواعد فى الفقه الإسلامى.
وختاما فإننى أتمثل فى تقدير دور فقهاء التقليد () هذا الدفاع الصادق الذى صاغه أستاذنا الدكتور محمد أحمد سراج () بقوله:
"وقد ضبط الفقهاء فى هذه المرحلة نظرية الضرورة، والحاجة، وتفسير النصوص، والعرف، والدفاع الشرعي، المعبر عنه فى الفقه الإسلامى بدفع الصائل، والتعسف فى استعمال الحقوق، والخصوصية، والمصالح، والعقد، والمال، والملك، وما إلى ذلك مما يعبر بوضوح عن طبيعة عمل فقهاء هذه الفترة، ويبعد بهم عما وسموا به من ضعف التفكير، والجمود، أو الانحطاط العقلى، طبقا لهذه الأوصاف التى جادت بها بعض القرائح.
ألا يكفى هؤلاء الفقهاء فخرا أن يصوغوا هذه النظريات الحقيقية وغيرها صياغة على قدر بالغ الوضوح والدقة، فيما تكشف عنه هذه القواعد التى سبقت الإشارة إليها؟
لا أشك فى أن الإجابة بالإيجاب إذا أدركنا حالة التفكير القانونى السائدة فى العالم آنذاك".
الفصل السادس
شيوع روح التقليد وسببه
المبحث الأول
الرواية النمطية
من العلماء من يؤرخ للدور الخامس من أدوار التشريع الإسلامى بالفترة من منتصف القرن الرابع وحتى سقوط بغداد سنة 656 هـ، ومنهم من يؤرخ لهذا الدور بمنتصف القرن الرابع الهجرى حتى أواخر القرن الثالث عشر. مقسما هذا الدور إلى مرحلتين، تنتهى أولاهما بسقوط بغداد والثانية من سقوط بغداد حتى أواخر القرن الثالث عشر.
وسواء كانت الفترة من سقوط بغداد وحتى أواخر القرن الثالث عشر تمثل دورا مستقلا، أو مرحلة جديدة من مراحل الدور الخامس فإنها تمثل أضعف مراحل الفقه الإسلامى فى رأى المؤرخين.
ويرجع المؤرخون هذا الضعف الشديد إلى أن تلك المرحلة قد شهدت أسوأ الاضطرابات السياسية، فقد اضطربت الدولة من الداخل بتفرق الحكام وتناحرهم على السلطة، واضطربت من الخارج بهجوم التتار واستيلائهم على كثير من البلاد الإسلامية حتى نجحوا فى إسقاط بغداد والقضاء على دولة الخلافة.
¥