ولا شك أن سقوط الدولة يؤثر بالسلب على حركة العلوم والفنون ومن بينها الفقه.
فعلى الرغم من وجود علماء أفذاذ أمثال الكمال بن الهمام والشيخ خليل المالكى وتاج الدين السبكى وابن حجر العسقلانى وجلال الدين السيوطى، وغيرهم، إلا أن حالة الفقه ساءت عن المرحلة التى سبقت ذلك فقد خلت من مجتهد مطلق، أو مجتهد فى مذهب إمامه باستثناء قلة عدوا من المجددين أمثال ابن تيمية وابن قيم الجوزية.
ويرجع المؤرخون ذلك إلى:
1 - انصراف همة العلماء إلى التأليف الذى تميز إما بالاختصار الذى سمى متونا، وقد بالغ فيه بعضهم حتى وصل إلى حد الألغاز، أو بشروح هذه المتون أو التحشية عليها، أو التعليق عليها، وهى طريقة عقيمة وصعبة لا تعين طالب فهم.
2 - انشغالهم بدراسة هذه المؤلفات رغم صعوبتها وقلة فائدتها.
3 - انقطاع الصلة بين علماء الأمصار المختلفة وأخذ العلوم من الكتب دون التلقى مشافهة.
4 - كثرة التأليف والتصانيف واختلاف الاصطلاحات فى التعليم وتعدد طرقها ثم مطالبة المتعلم باستحضارها، وهى عملية بالغة التعقيد.
وقد ساعد على هذا النكوص العلمى شيوع التقليد للأسباب الآتية:
1 - الدعاية القوية التى أحاط بها أنصار المذاهب المختلفة مذاهبهم مما جعلها تحتل فى نفوس الناس مكانة جعلتهم يعتقدون أن من خالفها مبتدعا.
2 - وجود بعض أتباع المذاهب فى مناصب سياسية، أو اتصالهم بالحكام والوزراء ساهم فى انتشار المذاهب وتأييدها بشتى الطرق، كجعلهم المذهب الفلانى مثلا هو الواجب التطبيق فى القضاء، أو المعين للدراسة فى المدارس.
فمن خرج من العلماء عن مذهب الدولة حرم القضاء والإفتاء والتدريس، ولم يكن له من أرزاق الدولة نصيب.
3 - ضعف الثقة بالقضاة مما استدعى أن يطلب أهل كل قطر أن يكون قاضيهم من أهل المذهب الذى يعتنقونه يتبع ذلك المذهب ولا يحيد عنه.
4 - تدوين المذاهب، وأخذ الناس بها واستغناؤهم عن كلفة البحث والتنقيب.
5 - تحاسد العلماء وتخوف الجادين منهم أن يظهروا بمظهر الاجتهاد فيكاد لهم ويضطهدوا ويرموا بالابتداع فيلحقهم سخط الناس وربما الفتك بهم.
6 - تهافت علماء هذا العصر على الفتوى.
7 - فساد نظام التعليم وتوسع العلماء فى الاشتغال بما لا يعنيهم.
لكل هذا شاع التقليد وانتشر وكان له أكبر الأثر فى حالة الضعف الشديدة التى آل إليها الفقه الإسلامى، بينما شهدت هذه المرحلة نهضة الفكر القانونى الوضعى فى الغرب مما أغرى كثيرا من حكام الشرق الإسلامى أن يستعيضوا عن الفقه الإسلامى بالقوانين الوضعية الغربية تقليدا للمستعمر، وهروبا من هذا الواقع الضعيف ...
المبحث الثانى
عصر التقليد ليس كما يقال عنه
لست أخالف أساتذتى أن روح التقليد غلبت على الحركة الفقهية وأنها وجدت لها دعاية قوية بلغت حد القول "إن اللا مذهبية قنطرة اللا دينية" () وعلى ضوء واقعنا فإننى أصدق تأثير الواقع السياسى على النشاط الفكرى، كما أصدق- فى ضوء الواقع أيضا- ولع العامة بالمألوف وانسياقهم خلف المحرضين على الخارجين عليه، وإن كان خروجهم مشروعا ويتوخى مصالح الأمة الحقيقية.
ولست أخفى الشكوى الشخصية من بعض مؤلفات هذا العصر، غير أنها وإن كانت صعبة إلا أن متونها تمرن على صياغة التقنينات، وتختصر الطريق، الراجح أو الصحيح، وشروحها تحفظ الآراء المرجوحة من الضياع والاندراس ().
أما نظام التعليم فلا أعى كنُهَ فساده، ويترجح فى نفسى أنه لو كان كذلك لما كان لرواد التجديد- لا التغريب- وكلهم أوجلهم من خريجى التعليم الإسلامى- وجود، ولما كان هذا النظام مثلا تحتذيه أوربا فى الخروج من نفق العصور المظلمة ().
والشىء اللافت للانتباه أن يحرص متهمو العصرين المملوكى والعثمانى على إشاعة رواية الأستاذ على مبارك [1823 – 1893م] أن "المدارس أهملت – فى العصر العثمانى – وامتدت أيدى الأطماع إلى أو قافها، وتصرف فيها النظار على خلاف شروط وقفها، وامتنع الصرف على المدرسين والطلبة والخدمة فأخذوا فى مفارقتها، وصار ذلك يزيد فى كل سنة عما قبلها، لكثرة الاضطرابات الحاصلة فى البلاد، حتى انقطع التدريس فيها بالكلية" () مع إغفال تاريخ هذا الحدث المشين، حتى ليبدو وكأنه طابع العصر، بيد أن روايات أخرى أنسب إلى تاريخ الدولة العثمانية ودورها فى حمل راية الإسلام تؤكد على أن "سلاطين آل عثمان اقتدوا فى إنشاء المدارس
¥