بسلاطين المماليك وأشهرها المدارس الثمانى التى أنشأها سليمان القانونى. وقد بلغ عدد المدارس فى منتصف القرن التاسع الهجرى – فى أخريات العصر المملوكى – فى مصر وحدها سبعين مدرسة "ويقال نحو ذلك فى الأصقاع الأخرى" () وجميعها تمثل "الامتداد المادى والفكرى للأزهر، يدرس فيها شيوخه ويتخرج منها العلماء على منهجه" ().
والمنهج الأزهرى وإن افتقر إلى العناية ببعض العلوم – غير التشريعية – فلعل علة ذلك ضيق حال غالبية أهله، "وهذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات" () لا يقدرون عليها لفقرهم.
ويصدق ذلك أن مدرسة الطب التى أنشئت سنة 1828م اختير لها بمعرفة الحكومة وبمشورة كلوت بك – الذى أوكلت إليه إدارة المدرسة – مائة تلميذ من طلبة الأزهر، تفوق منهم – على أقرانهم – عشرون، أبقى ثمانية منهم فى المدرسة فى وظيفة معيدين للدروس، وأرسل الاثنا عشر الباقون إلى باريس لإتقان علومهم وإتمامهم، فلما عادوا عينوا أساتذة فى المدرسة، وهم الذين تألفت منهم البعثة العلمية الرابعة ().
وإذا عولنا على علوم العربية والفقه بحسبانها الأشد التصاقا بالشخصية والهوية والتشريع فإن "الجمود" على القديم، والاعتصام به، كان موقفا لا يخلو من الوجاهة، ولا تنعدم منه الإيجابيات، وقد عطل – مرحليا – طوفان التغريب ().
ولا أدرى كيف يكون على رأس مشيخة الأزهر رجل متضلع فى الأدب وفنونه، حظه من العلوم العصرية والجغرافيا وفير كالشيخ حسن العطار، ويتربى على يديه، وينهل من فيض علمه رفاعة الطهطاوى، ثم تتقبل دون مراجعة رواية الجبرتى عن علماء الأزهر فى مطلع حكم محمد على"أنهم افتتنوا بالدنيا، وهجروا المسائل، ومدارسه العلم إلا بمقدار حفظ الناموس مع ترك العمل بالكلية" () ولا تستوقف الراوى هذه المفارقة، بل تلك اللفظة الغربية عن الاصطلاح الإسلامى، أعنى لفظة "الناموس"؟!
ولئن سلمنا بعجز المؤسسة التعليمية الفقهية عن تأهيل الكوادر، ووضع الحلول القادرة على بناء اجتماعى فاعل، فكيف نستسيغ حرص مسيو "جو مار" [1777 - 1862م] – رجل فرنسا فى بلاط محمد على الكبير – على أن تكون بعثة تلقى علم الحقوق من طلبة الأزهر، وتتعلم تحت رقابته؟!! () وذلك فى العام 1847م، أى بعد خمس وثلاثين سنة من ابتداء البعثات العلمية التى أوفدها محمد على، بل كيف نستسيغ أن يكون عبقرى هذه البعثات هو الشيخ النابغة رفاعة رافع الطهطاوى، وأن يكون محل رعاية خاصة من مسيو "جو مار" والمستشرق الشهير "البارون دى ساسى" وأن تشهد تعليقاته على الدستور، وأصول الحقوق الطبيعية والفلسفة اليونانية والسياسية على فهم عميق للعلوم الإسلامية، وإن أضاع ثمرة هذا الفهم- فى رأينا- بالانتصار لثقافة التغريب؟!
ألا توحى هذه الوقائع اليقينية بزيف دعوى فساد نظام التعليم الأزهرى، وعجز علمائه وطلابه عن تحقيق أمانى وتطلعات أمتهم؟
وألا تدل على حرص محمد على – وبلاطه الفرنسى – على ضرب هذا النظام فى مقتل بسبه، وتضييق الخناق عليه، وامتصاص أطايب رحيقه لتوظيفهم فى جبهة التغريب؟
يقول بيتر جران صاحب كتاب الجذور الإسلامية للرأسمالية "إن الفكر العلمى الذى أنتجه شيوخ الأزهر المصريون لم يشرع فى التبلور إلا منذ منتصف القرن الثامن عشر حتى أجهضته التحولات الكبرى فى عصر إسماعيل….وأن الحملة الاستعمارية التى قادها نابليون هى التى أجهضت التصور الاقتصادى الفكرى الحقيقى والأصيل والقومى فى مصر، ومهدت السبيل إلى غرس فكرة استيراد واستعارة نماذج الثقافة والتحضر ومناهجها الغربية……ويقرر أن مصادر هذا الفكر لا توجد إلا فى الكتب والمخطوطات المصرية الموجودة فى مكتبة الأزهر ودار الكتب، والتى ظل الدارسون المحدثون يصرفون النظر عنها منذ عصر محمد على ().
وأخيرا فإن الغفلة عن المفكرين العلميين قد تكون مبررة إثر دفن التصور الاقتصادى العلمى وإقصاء رواده، ولكن كيف يبرر السهو عن قيمة ومكانة أمثال الدهلوى، والشربينى، والزبيدى والصنعانى، وابن عابدين، والشوكانى والسنوسى، وهم أجل من أن يخطئهم بصر باحث فى الوعى الإسلامى؟ ناهيك عن غيرهم من العلماء – غير بنى الأزهر – أمثال محمد بن عبد الوهاب، وعبد الحميد بن باديس. وهما رواد فكر، وقادة تحول.
تخصيص القضاء:
¥