يبقى تخصيص القضاء بمذهب معين، وهو وإن كان ضارا بالنشاط الفكرى، إلا أنه من دواعى الاستقرار وانتظام الأحكام، على أن الدعوة إلى تخصيص القضاء قديمة، ولعلها ترجع إلى ما قبل رسالة عبد الله بن المقفع إلى أبى جعفر المنصور الخليفة العباسى، والمعروفة باسم "رسالة الصحابة" () ففى عهود التولية الصادرة من الخلفاء الراشدين ما يومئ إلى شئ من التقييد.
وعلى كل حال فإنه أنفى للتهمة وأرضى للخصوم وإن كانت أحكام الشرع لا توجبه فالسياسة تقتضيه ().
وأميل إلى أن القضاء كان مقيدا فعلا- بمراعاة مؤهلات القضاة ومناهجهم- وإن لم يبرز النص على ذلك فى عهود الولاية () ومع ذلك لم يمنع تقييد التصرف القضائى من الاجتهاد الفقهى فى عصور الاجتهاد المطلق والمذهبى.
ومن جانب آخر هل من دليل مقنع على اهتزاز القضاء المخصص، أو عجز عن فض الخصومات، وأداء الحقوق إلى أصحابها؟
اللهم لا، إلا روايات من هنا وهناك تتعلق بقاض بعينه، أو خصومة بعينها، وذاك فقر لم يبرأ منه مجتمع أبدا، أما عموم النظام القضائى فلدينا شهادات تؤكد أنه فى عهد المماليك كان "ممتازا" () ويشهد مكسيم رودنسون: أن "النظم العثمانية السياسية والإدارية والعسكرية كانت موضوعا للتأملات النظرية المنطوية على الإعجاب بكفايتها فى نواح عديدة" ().
والتهمة الشائعة عن القضاء فى العصر العثمانى هى "عثمنة" القضاء، وهى على التحقيق تهمة لا تخلو من عصبية، ولا تعنى أكثر من أن أشخاص القائمين على إدارة القضاء هم من الأتراك العثمانيين، أما القضاء ذاته فقد كان شرعيا ولم يلتزم طوال تلك الفترة بغير أحكام الشريعة الإسلامية () وإن كان من الباحثين من يقرر أنه منذ الربع الأخير من القرن السادس عشر أصبحت أسماء القضاة التى توجد على الصفحات الأولى من سجلات هذه المحاكم كلها أسماء مصرية ومن بين علماء الأزهر الشريف عدا اسم قاضى العسكر وبعض نوابه والذين تذكر أسماؤهم فى سجلات الديوان العالى ومحكمة الباب العالى ().
كما قام النظام القضائى العثمانى على تيسير سبل التقاضى على المواطنين، فقسم القطر المصرى – مثلا – إلى ست وثلاثين ولاية قضائية تقوم على رأسها محكمة الباب العالى فى القاهرة، وإلى جانبها توجد اثنتا عشرة محكمة فى أخطاط – أحياء – القاهرة المختلفة، كما روعى أن تتبع محاكم الولايات محاكم أخرى تسمى محاكم النواحى يتوقف عددها على مساحة إقليم الولاية القضائية، وقد كانت هذه المحاكم ذات اختصاص عام بنظر كل ما يرفع إليها، فضلا عن محكمتين تمارسان اختصاصا نوعيا وهما: محكمة القسمة العسكرية ومحكمة القسمة العربية.
ولم ينتقص الاختصاص القضائى إلا بتمكن الحملة الفرنسية من مصر، ومن بعدها بنفوذ محمد على وخلفائه. فألغيت محاكم الأخطاط وقللت محاكم النواحى، وانتزعت من المحاكم بعض الاختصاصات القضائية وأوكلت إلى بعض الجهات الإدارية، كديوان الوالى [1805م] والمجلس العالى الملكى 1824م، والدواوين التى أنشئت بمقتضى قانون السياسة نامة، 1838 م، وجمعية الحقانية 1842م. التى قامت منذ إنشائها بإصدار العديد من القواعد العقابية التى شكلت الجانب الأكبر من مواد قانون المنتخبات الذى استوحى بعض مواده من القانون الفرنسى ().
وقد نص محمد على فى الأمر الصادر بإنشاء جمعية الحقانية على أنه "……وحيث إن الأوربيين هم رجال قد دبروا أشغالهم ووجدوا السهولة لكل مصلحة، ونحن مجبورون على الإقتداء بهم…… ().
ولا يغيبن عن ناظر فى قانون المنتخبات أنه أسرف فى التجريم، وأمعن فى قسوة العقاب، وفرط فى احترام مبدأ المسئولية الشخصية، والمساواة أمام القانون، وفى مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وبالجملة فإن "جمعية الحقانية كانت تختص بالمسائل الجنائية والمدنية والعسكرية دون تقيد بأحكام الشريعة الإسلامية" ().
¥