تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وإذا كان محمد على قد بعد عن التشريع الإسلامى خطوات فإن خلفاءه () زادوها إلى أميال، وقد تم ذلك وفق خطة متدرجة محكمة، تتراوح بين إقصاء الفقه والقضاء الشرعى من جهة، وتأهيل الحقوقيين وفق الأصول الفرنسية من جهة أخرى، ولم يكن عجبا أن تعنى مدرسة الألسن التى أنشئت سنة 1836 بتدريس الشرائع الأجنبية، وأن يكون من بين بعثة 1826 – وعدد أفرادها الذين أتموا دراستهم تسعة وثلاثين مبعوثا، أربعة لدراسة الإدارة الملكية والحقوق، واثنان لدراسة العلوم السياسية. بينما خصص لدراسة الهندسة الحربية ثلاثة، وللطب والجراحة اثنان، ولهندسة الرى واحد وللزراعة اثنان، ولصنع الأسلحة وصب المدافع اثنان وللكيمياء أربعة. وفى العام 1847 ترسل البعثة السابعة مؤلفة من خمسة من طلبة الأزهر لتعلم الحقوق والوكالة فى الدعاوى ().

وفى عصر سعيد غلبت الفوضى على القضاء بعد أن ضمت مجالس الأحكام التى تحولت إليها جمعية الحقانية عام 1849 - فى عهد عباس – "عناصر بعدت تماما عن الصفات المطلوبة فى القضاة" () كما توسع فى القضاء المختلط.

أما إسماعيل [1863 –1879] فقد أنشأ فور توليه "ديوان الحقانية" وكون سلطة تشريعية اعتمد فيها على التشريع الفرنسى ()، واستعاض سنة1868 م عن مدرسة الألسن بمدرسة "الإدارة والألسن" والتى سميت 1886 م "مدرسة الحقوق" وكان أول ناظر لها هو المسيو فيدال باشا أحد علماء فرنسا المشترعين، وبقى يتولى نظارتها أربعا وعشرين سنة ().

وينما يجمع المؤرخون على أن إسماعيل كان مولعا إلى حد الزراية بعلاقاته مع فرنسا، لا يخيب لرجالها رجاء، وإن على حساب مصلحة الوطن ()، فإن الدكتور محمد عمارة ليقبل دون تردد دعوى أن الذى ألجا إسماعيل إلى استيراد القوانين الغربية أن "أركان المؤسسة الدينية – حسب تعبيره – لم يستجيبوا لرغبة الدولة فى تطوير فقه المعاملات لتتمكن المؤسسة القانونية من الفصل فى المعاملات التى استجدت، بل لقد اعتبروا - حسب قوله – أن ذلك مما لا يحل ولا يجوز" ().

ولم يبين لنا الدكتور عمارة ماهية هذه المعاملات المستجدة لنقدر تمنع الشيوخ، إن كان الخديوى قد طلب منهم شيئا بالفعل، وإن كنا نرى فى هذه الحكاية – فى ضوء شخصية الخديوى – مزحة من ريح إبريل.

حقيقة ومقصد التهمة بضعف الفقه:

الحق أن كل سبب للتدليل على جمود الفقه الإسلامى لا يصفو من الكدر، ومع عظيم احترامى لكل من قبلوا بهذه الأسباب، وعللوا التحول التشريعى، الذى سلخ الأمة من دينها بناء على ما ظنوه دافعا سائغا، فإنى لأتساءل:

ماذا قدمت النهضة الفقهية الحديثة زيادة على فقه المجتهدين الذين تبعهم المقلدون كل هذا التاريخ؟

وهل استطاع مجددو القرن الرابع عشر الهجرى وما بعده أن يغفلوا مؤلفات المقلدين؟ عموم المقلدين، ولا أقول أفذاذ عصور التقليد؟

لقد غيرنا أسلوب الكتابة، ونحينا المذهبية جانبا، فهل قفزنا حقا بالفقه الإسلامى؟

لقد صنعنا نظريات فقهية فهل جاوزنا صنائع المقلدين؟

وقد طفح عصرنا بالمتغيرات فهل استطاع أقوياء الدين، وكاملو المعرفة والعقل () أن يضعوا أصولا جديدة للاستنباط؟

أم أننا لم نزل نرعى الموروث، وننتقى من آراء المتقدمين؟

ولا شك أننا لا نستطيع أن نزعم أن الفقه الانتقائى- المقارن- من وضعنا، فقد سبقنا إليه المقلدون منذ قرون، ومنهم كثيرون تحرروا من المذهبية، وتحكيم الرجال، وتحروا فى الانتقاء والترجيح ما قوى دليله وسلمت حجته.

لقد جمد المقلدون على المنقول سدا لذريعة ادعاء الاجتهاد من غير أهله، فيفترى على الله الكذب، ويتشتت الشمل، ويتفرق الجمع وتتمزق الوحدة، فهم معذورون فيما فعلوا، ولا شك أنهم غالوا فى ذلك، ولكنه لم يكن أبدا الغلو الذى وقف بالفقه عن مسايرة حياة الناس، وأبلغ دليل على ذلك أن أشدهم جمودا- كالأحناف- كانوا شديدى الانشغال بالحيل والبحث عن المخارج، لا ريب أن هذا ليس هو الطريق السوى، ولكنه مظهر صادق على العناية بتوظيف الفقه فى مسايرة الواقع.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير