والبديل العصرى- فى مستهل عصر النهضة- منه ما غالى فى رد كل موروث اجتهادى، وإن كان قولا لصحابى – كما فعل الشوكانى. ومنه ما تبنى النظرية التوفيقية بين الثقافات- كما فعل الأستاذ الشيخ محمد عبده- "ومن أهم ما ترمى إليه هذه النظرية هو استخدام نصوص الشريعة فى تبرير أنماط الغرب الفكرية، وهو أشر من تقليد هذه الأنماط تقليدا أعمى، لأن الناس يمكن أن يعيشوا على أمل التخلص من الدخيل إذا قامت فيهم حركة أصيلة للإحياء، أما فى الحالة الأولى، وهى حالة اندماج وتفاعل فإن إدراك الحدود بين الأصيل والدخيل تدق وتخفى حتى تكاد تستحيل" ().
وفى الحالات التى اختبرتها وجدت أن من رواد النظريات الفقهية- وأقول الرواد- من بحث تحت تأثير النظرية التوفيقية فانتهى إلى عكس ما تقتضيه الأدلة، وتؤمى إليه المقاصد الحقيقية، ولو دقق فيما تشبث به المقلدون لوجده هو الحق والعدل ().
ومع الحرص البارز على فقه المقاصد فى عصرنا- وهو من تنبيه الأولين وضبط المقلدين- فإن من مشايخنا من خرج به فى بعض فتواه عن إطاره، كفتوى بعضهم فى فوائد البنوك، وقد غفلوا- هم أنفسهم - عنه تماما فى مواضع يجب حفظه فيها، كتوثيق عقود الزواج، والانتفاع بأعضاء الآدمى الحى.
وأخيرا فإن أسباب المعرفة فى زماننا أوسع منها فى أى زمن مضى، فالسنن قد جمعت وضبطت، والمطابع تقذف كل يوم بالأطنان من صنوف المعرفة الفكرية، لا سيما الإسلامية، والكتاب الإسلامى هو الأكثر رواجا وتوزيعا فى القراء، وقد قامت عدة من المجامع الفقهية، ولا تخلو ساعة من منتدى فكرى أو حديث دينى، ووسائل الاتصال جعلت العالم قرية صغيرة، يتناجى سكانها لا يتصايحون، ولا ريب أن كتاباتنا أيسر لفظا، وأضبط ترتيبا وتصنيفا وأحكم صنعة، وقد انعتقنا- بفضل الله وفى الإطار السوى- من ربقة المذهبية، وقطعنا الشوط الأعظم فى جمع المتفرقات وبناء النظريات، وقننا الأحكام فى نصوص قانونية يسهل جداً الرجوع إليها.
فهل عدنا بالفقه إلى ساحات المحاكم عدا دوائر الأحوال الشخصية؟
وهل حكم الفقه حضارتنا المعاصرة فى أكثر جوانبها تخطيطا وإعدادا وثقافة وتنفيذا، ومجابهة لحضارات الآخرين؟
اللهم لا إلا نادرا.
والسؤال: لم، والعلماء كثر، والنوايا صادقة، والمادة ميسورة؟
والجواب: إنها دواعى السياسة، وسطوة النخبة، التى تنعت حركة الإحياء بالرجعية والتخلف، وتتخذ من بعض الصور الشاذة وبعض الخلافات السياسية وسيلة للطعن فى الحركة بأسرها، بينما تمجد التبعية والاستغراب وتخلع علي ذلك أوصاف الحداثة والتقدم والتحضر.
وهذا هو ما كان لنبذ فقه التقليد عن أن يكون حاكما تشريعيا وحضاريا، ففى سبيل إبعاده عن الحياة وإحلال الغريب والمستورد محله رمى بكل سوءة، وقذف بكل ذميم، لتتهيأ الساحة للبديل، لاعن حسن فيه، ولاعن جهل بقدرة الموروث على الوفاء بالحاجة متى حرر من تحكيم الرجال، ولكن عن رغبة عنه وكفى، أما السبب فلأنه مظهر العدو الذى يراد القضاء عليه.
يقول أستاذنا الدكتور يوسف قاسم:
"إن أعداء الإسلام ركزوا فى خطتهم الهدامة على مصر، مصر التى تحطمت على صخرتها أعتى الهجمات البربرية على الأمة الإسلامية، وعلى الحضارة الإنسانية كلها- يعنى هجمة التتر المغول- فكان النصر المؤزر على أيدى أبناء مصر المؤمنين الشجعان.
راجع العدو خطته ورسمها من وجهة أخرى، تختلف عن تلك التى كانت من قبل، فأراد أن يصل إلى هدفه بطريق غير الطريق العسكرى، يتمثل فى الدهاء والكيد للإسلام والمسلمين.
ولعل اختيار محمد على واليا على مصر يخفى وراءه شيئا من تلك الخطة التى فشلت الجيوش الحربية فى الوصول إليها.
فما إن تولى هذا الرجل حكم مصر حتى بدأت القاعدة الشرعية تهتز شيئا فشيئا – على الرغم من أن الشريعة الإسلامية هى الواجبة التطبيق فى ذلك الحين- ثم فى عهد إسماعيل أحاطت الديون بمصر من كل جانب نتيجة الإسراف والبذخ فيما لا ينفع ولا يفيد.
وترتب على كثرة الديون وجود عدد هائل من الأجانب فى الأراضى المصرية، وتبع ذلك ظهور فكرة تفضيل الأجانب الدخلاء على المصريين بالقوانين المختلطة…….وهذه القوانين هى صورة تكاد تكون طبق الأصل من مجموعة نابليون الفرنسية.
¥