و من هذا، اختلفت أنظار العلماء في قوله تعالى: " و لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " هل الأمر بالحج على الفور أم على التراخي؟.
قال: " و الأمر بإيجاد الفعل أمر به و بما لا يتم الفعل، كالأمر بالصلاة أمر بالطهارة. ".
1 – الأمر قد يتعلق بالشيء مباشرة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله فرض عليكم الحج فحجوا ".
2 - و قد يتعلق بسببه و ما يتوقف عليه، فيكون ذلك أمرا به، لأن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به: واجب، و محل ذلك: إذا كان جزءا من المأمور به، مثل: غسل الوجه، كما قال تعالى: " فاغسلوا وجوهكم " فغسل الوجه لا يتحقق إلا بغسل شيء من الرأس، حتى يتحقق الإنسان أنه غسل كل الوجه، فما لا يتم الواجب المطلق إلا به: واجب، فيدخل جزء الرأس في وجوب غسل الوجه.
3 – أما إن كان سببا، فإنه لا يجب سواء دخل في الطوق أم لم يدخل فيه، فالسبب الداخل في الطوق، كجمع المال حتى يبلغ نصابا لوجوب الزكاة، فالزكاة سبب وجوبها: ملك النصاب، و دوران الحول عليه، فلا يجب على المسلم أن يجمع المال حتى يلبغ نصابا لتجب عليك الزكاة، و هو داخل في الطوق.
و مثال ما ليس داخلا في الطوق: تغريب الشمس حتى تجب عليك صلاة المغرب، فهذا قطعا لا يجب، لأنه لو وجب لكان من التكليف بالمحال، و لا يجوز التكليف بالمحال.
4 – أما إن كان شرطا، فإن كان داخلا في الطوق كالطهارة للصلاة، فهو واجب، و إن كان خارجا عن الطوق كالنقاء من دم الحيض و النفاس، فلا يجب.
قال: " و إذا فعل يخرج المأمور عن العهدة "، فإذا بالمأمور به على الوجه الصحيح، أجزأه و لم يُخاطب به مرة أخرى، فتبرأ ذمته.
من يدخل في الأمر والنهي ومن لا يدخل
يدخل في خطاب الله تعالى المؤمنون، و الساهي و الصبي و المجنون غير داخلين في الخطاب، و الكفار مخاطبون بفروع الشرائع، و بما لا تصح إلا به وهو الإسلام، لقوله تعالى: ? ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين?.
و الأمر بالشيء نهي عن ضده، و النهي عن الشيء أمر بضده.
قوله: " يدخل في خطاب الله تعالى المؤمنون "، فقوله تعالى – مثلا –: " أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة "، فيشمل هذا كلَّ مؤمن بالله تعالى، إلا إذا كان متصفا بما يمنعه من الدخول في العموم، كغير المكلف، و من رفع عنه القلم، فلا يدخل في هذا الخطاب.
و لهذا قال الجويني: " و الساهي و الصبي و المجنون غير داخلين في الخطاب ".
- الساهي: غائب العقل في وقت الخطاب، سواء كانت غيبته عميقة كالإغماء، أو خفيفة كالسهو.
- الصبي: غير البالغ.
- المجنون: المصاب بما يغطي عقله.
- أما المريض مرضا دون ذلك، بحيث لا يستطيع أداء الفعل في وقته، و المسافر الذي هو مخير بين الصوم و الإفطار، اختلُف في دخولهما في الخطاب.
- فقيل: يدخلان في الخطاب، لأنه يلزمهما القضاء، مثل ذلك الحائض فيما يتعلق بالصوم دون الصلاة، فالحائض لم تخاطب بالصلاة لا أداء و لا قضاء، و هي لم تخاطب بالصوم أداء، و لكنها خوطبت به قضاء.
فائدة: هل القضاء بالأمر الجديد، أم بالأمر الأول؟ هذا محل خلاف.
قال: " و الكفار مخاطبون بفروع الشرائع ".
الكفار غير نعذورين بكفرهم، فهم مخاطبون بفروع الشرائع، أي: تفصيلاتها الزائدة على أصل الإيمان، فيدخل في ذلك: الصلاة، و الصوم، و الحج، و غير ذلك، لأنهم مخاطبون بالإسلام.
و هذه المسألة محل خلاف بين الأصوليين:
1 – فذهب جمهورهم إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، لقوله تعالى: " ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، و لم نك نطعم المسكين، و كنا نخوض مع الخائضين، و كنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين "، فهؤلاء كفار، لأنهم قالوا: " كنا نكذب بيوم الدين "، و مع ذلك فمما سلكهم في النار: أنهم لم يكونوا من المصلين، و لم يكونوا يطعموا المسكين، و كانوا يخوضون مع الخائضين.
¥