لكن بموت النبي صلى الله عليه و سلم، أصبح الإجماع حجة، و قد ورد في عصمة الإجماع عدد من الأدلة، لذلك كان الإجماع – أصلا – قطعيا، من خالفه: فهو متوعد بالنار، كما قال تعالى: " و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى و نصله جهنم و ساءت مصيرا ".
- و شرطه: أن يحصل الاتفاق بين كل المجتهدين، فإن خالف واحد لم ينعقد الإجماع – في عصر من العصور -.
- و العبرة فيه بالعصر، فإذا انقرض العصر و هم متفقون على أمر، فلا يحل إحداث قول جديد، و إن لم ينقرض العصر بل بقي بعضهم أحياءً فيمكن إحداث قول جديد، لإن الإجماع لم ينعقد بعدُ.
- و لا يكون الإجماع إلا عن حكم شرعي، فلا يكون الإجماعُ على العقليات و لا على لعاديات، لأنها لا يُحتاج فيها إلى النقل.
فائدة 1: اختُلف، هل من شرط الإجماع أن ينعقد على دليل، أو لا يُحتاج إلى ذلك؟
1. ذهب بعض أهل العلم إلى أن الإجماع لابد له من مستند، لأن الأمة لا تجمع على ضلالة، و ما لم يرد فيه نص هو من تشريع ما لم يأذن به الله، و هو: ضلالة، فلابد أن يكون الإجماع مستندا إلى دليل.
2. و قال آخرون: بل الإجماع نفسه: دليل، فلا يحتاج إلى مستند.
و لعل القول الأول هو الراجح، لكن لا يُشترط لمستند الإجماع أن يصل إلينا، فيمكن أن يَستند الإجماع إلى حديث لم يبلغنا، أو إلى قياس أو اجتهاد و نحوه من الأدلة.
فائدة 2: في كل عصر من العصور يمكن أن ينعقد الإجماع، لكن: نقل الإجماع أصعب من انعقاده.
فالذي ينقل الإجماع لابد أن يكون - بحد الاطلاع – بحيث يعرف كل المجتهدين في العصر الذي ينقل الإجماع فيه، و قد اطلع على أقواهم جميعا.
مثال: لو أن شخصا في زماننا هذا من أهل العلم، اطلع على علماء هذا العصر جميعا في مشارق الأرض و مغاربها، و عرف من بلغ رتبة الاجتهاد منهم و الفتيا، و عرف أقوالهم في نازلة محددة كالصلاة في الطائرة – مثلا –، فحكى إجماع هذا العصر – أي الماضي – على جواز الصلاة في الطائرة، فيكون هذا إجماعا لهذا العصر، فإن انقرض لم يحلَّ نقضه.
أما إذا كان الانسان غير مطلع على أوضاع العالم فيمكن أن يكون في مشارق الأرض أو في مغاربها من المفتين من وصل إلى رتبة الاجتهاد و لم يعلم هو به، أو علم به و لم يصل إليه قوله في تلك المسألة، فلا يصح له حينئذ أن يحكيَ الإجماعَ.
و لهذا فإن الذين يحكون الإجماع في هذه الأمة قلائل، من أمثال: ابن المنذر، و ابن حزم، و ابن تيمية، و ابن عبد البر، فهم العمالقة الكبار المطلعون على أوضاع العالم، الناقلون لعلوم المشارقة و المغاربة و لأهل الأطراف.
- و قول المصنف: " اتفاق " المراد بذلك: تواطؤُ فتواهم عليها و لو لم يجتمعوا و لو لم يتعارفوا فيما بينهم، و لم تصل فتوى بعضهم إلى بعض، فالمقصود: أن تتواطأ فتواهم على الأمر.
- و قوله " و نعني بالعلماء: الفقهاءَ "، و المقصود بهم هنا: المجتهدون، فلا عبرة بمخالفة العاميِّ، و لا بمخالفة لنحويين في مسائل الاجتهاد، و لا بمخالفة المتكلمين كذلك فيها، بل و لا بمخالفة بعض المحدثين ممن ليس فقيها بالغاً لرتبة الاجتهاد، فالعبرة إذاً بأهل الاجتهاد و الفتيا.
- و قوله: " و نعني بالحادثة: الحادثةَ الشرعيةَ " أي: في الحكم الشرعي، فيخرج من ذلك: الأمور العقلية، فلا فائدة من حكاية الإجماع على أن السماء فوق الأرض، و أن الواحد نصف الاثنين – مثلا –، و يخرج أيضا: الأحكام العادية، فلا فائدة من حكاية الإجماع على أن النار محرقة و نحو ذلك.
قال: " وإجماع هذه الأمة حجة دون غيرها "، فمن خصائص هذه الأمة أنها لا تجتمع على ضلالة، فلا يمكن أن يجتمع مجتهدوها جميعا على ضلالة، لأن أهل الاجتهاد فيها: هم أمناء الله على الوحي، و ليس بعد النبي صلى الله عليه و سلم نبيٌّ يصحح ما أخطؤوا فيه، بخلاف الأمم السابقة فإن علماءها - و إن كانوا مؤتمنين على الوحي في منزلتهم - إلا أنه إذا أخطؤوا فسيأتي بعده نبيٌّ يصحح الخطأَ، و هذه الأمة لا يأتي بعد علمائها نبيٌّ، فعلماؤها مثل أنبياء بني إسرائيل مؤتمنون على الوحي، فلا يمكن أن يجتمعوا على ضلالة.
¥