و لهذا أخرج أبو عمر ابن عبد البر في مقدمة " التمهيد " و الخطيب البغدادي في " شرف أصحاب الحديث " من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: " يحمل هذا العلمَ من كل خلف عدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين و انتحال المبطلين و تأويل الجاهلين "، فالوحي من عند الله، و لم يكن ليجعله بدار هوان، فاختار له المُوَقِّعِين عن رب العالمين الذين هم محل ثقة و رضى، و اختيارهم إنما هو من عند الله تعالى، كما قال جل و علا: " الله أعلم حيث يجعل رسالته " و قال: " يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة "، و لهذا قال: " ما أشهدتهم خلق السماوات و الأرض و لا خلق أنفسهم و ما كنت متخذ المضلين عضدا ".
قال: " لقوله صلى الله عليه وسلم: ? لا تجتمع أمتي على ضلالة ? ".
وهذا الحديث – وإن كان ضعيفا – في كل طريق من طرقه، إلا أن طرقه كثيرة، وله شواهد كثيرة تؤيده.
قال: " و الشرع ورد بعصمة هذه الأمة " أي: قد ورد في الشرع كثير من النصوص التي تدل على عصمة هذه الأمة، و المقصود بعصمتها: في إجماعها.
قال: " و الإجماع: حجة على العصر الثاني " أي: أن إجماع أهل كل عصر حجة على ما بعده، فليس حجة على أفراد أهل ذلك العصر و لا على من قبله.
قال: " و في أي عصر كان " أي: لا يُشترط أن يكون الإجماع في عصر الصحابة كما شَرَط ذلك بعضُ الأصوليين، بل في كل عصر يمكن أن يقع الإجماع.
قال: " و لا يُشترط انقراض العصر على الصحيح "، أي: إذا حصل الإجماع، فإن الشافعية لا يرون اشتراط انقراض العصر، و لكن الراجح: أن انقراض العصر: مشترط، لأن أهل العصر حجة على من بعدهم، و لأن عليا رضي الله عنه رجع عن بعض أقواله التي وافق فيها الصحابةَ في أيام عمر رضي الله عنه، كرجوعه عن فتواه في بيع أمهات الأولاد، فكان قد وافق عمرَ و الصحابةَ على حرمة بيع أمهات الأولاد، ثم في خلافته رجع عن ذلك القول، فقيل له: ألم تكن تقول بما تقول به الجماعة؟ فقال: كان ذلك أيام أمير المؤمنين عمر و لم تسعني مخالفته، و أما اليوم فأرى غير ذلك، فقال له عبيدة السلماني: رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة، فضحك علي إقرارا لذلك.
فلذلك الصحيح: هو اشتراط انقراض العصر.
قال: " فإن قلنا: انقراض العصر شرط، فيعتبر قول من ولد في حياتهم وتفقه وصار من أهل الاجتهاد ".
يُعتبر خلاف التابعي الكبير في أيام الصحابة، لأنه وُلد في أيامهم و تفقه و أصبح يفتي كـ: سعيد بن المسيب، و أبي سلمة بن عبد الرحمن، و عروة بن الزبير، و القاسم بن محمد، فهؤلاء اختلافهم معتبر في أيام الصحابة، لأنهم وُلدوا في حياتهم و تفقهوا و أصبحوا من مجتهدي ذلك العصر.
بخلاف من وُلد و لم يتفقه إلا بعد انقراض العصر، فليس له أن يخالف حينئذ لأنه مسبوق بالإجماع.
قال: " و لهم أن يرجعوا عن ذلك الحكم ".
أي: إذ قلنا باشتراط انقراض العصر، فلأهل كل عصر أن يرجعوا عن ذلك الحكم بعد أن اتفقوا عليه، فلأفرادهم أن يرجعوا عنه، إذا رأوا ما هو أقوى منه.
و الرجوع: ليس عيبا، بل قد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه - في القضاء - إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: " و لا يمنعنك قضاءٌ قضيتَ فيه بالأمس فراجعتَ فيه نفسك، فأُريتَ فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، و إن الرجوع في الحق خير من التمادي في الباطل "، و يقول أحد العلماء و هو الشيخ العلامة محمد بابا رحمه الله:
ليس بمن أخطأَ الصوابَ بمُخْطٍ إن يَؤُبْ لا و لا عليه ملامهْ
إنما المخطئ الْمُسٍي إذا ما ظهر الحق لج يحمي كلامهْ
حسنات الرجوع تذهب عنه سيئات الخطا و تنفي الملامهْ
قال: " و الإجماع يصح بقولهم و بفعلهم ".
أي: أن الإجماع يحصل بالقول و بالفعل، فإن فعلوا أمرا و لم ينكر أحد منهم على أحد، و أظهروه و اتفقوا عليه و تواطؤوا عليه، اعتُبِر ذلك: إجماعا.
و ليس هذا مثل: الإجماع السكوتي، لأن الإجماع السكوتي لا يقتضي أن يكونوا فعلوه جميعا، بل فِعْلُ بعضهم أو قوله، و سكوت الآخرين عنه.
قال: " و بقول البعض و بفعل البعض ".
¥