و مثال ذلك: الإسكار، فكلما وُجد الإسكار في شيء، وُجد فيه التحريم، فلا يمكن أن يكون المشروبُ مسكراً و هو مباح.
و فسَّر الجويني الاطِّرادَ بقوله: " فلا تنتقض لفظا و لا معنى ".
أي: أن لا يكون فيها النقضُ – الذي هو قادح من قوادح العلة – و هو: أن توجد العلة في صورة و لا يوجد الحكم.
و لا فائدة في قوله: " لفظا و لا معنى "، فالمقصود: عدم انتقاضها فقط، و لكن يقصد هنا: أن لا تنتقض في الثبوت و لا في الانتفاء، فيقصد: الاطراد و الانعكاس في العلة.
قال: " و من شرط الحكم: أن يكون مثل العلة في النفي و الإثبات ".
- " من شرط الحكم " أي: حكم الأصل.
- " أن يكون مثل العلة " أي: أن يكون مطردا أيضا.
- " في النفي و الإثبات " أي: مُطَّرِداً، مُنْعَكِساً.
فمن شرط الحكم: الاطراد و الانعكاس، فهو تابعٌ للعلة في النفي و الإثبات – أي: في الوجود و العدم – فإن وجدت العلة وُجد الحكم، و إن انتفت انتفى الحكم، و هذا الشرط مُغْنٍ عن الشرط السابق، فلو ذُكِر هذا الشرطُ وحده لكفى.
و مثال ذلك: الإسكار، هو علة لتحريم الخمر، فمتى وُجد الإسكار وُجد التحريم، و متى انتفى الإسكار انتفى التحريم.
فإن كان للتحريم عللٌ متعددة: لم يلزم من انتفاء علة معينة منها: انتفاء الحكم، و ذلك كانتقاض الوضوء بالبول و بالغائط و النوم و غير ذلك، فعلة واحدة وُجدت رُتب عليها النقض.
قال: " و العلة هي الجالبة للحكم ".
يريد بهذا: زيادة تعريف للعلة، فيقصد أن الحكم مرتبٌ على العلة، فمتى وُجدت وُجد الحكم ن و متى انتفت انتفى الحكم.
قال: " و الحكم هو المجلوب للعلة ".
أي: أن الحكم مرتبٌ على العلة، فهي علامة عليه، فمتى وُجدت تلك العلة وُجد الحكم.
و هنا أراد أن يبين بهاتين الجملتين: أن العلة يمكن أن تكون قاصرة، فتصلح للتعليل، و ذلك كخروج النجس من أحد السبيلين، فقد دل الدليل على أنه ناقض للوضوء، و هو: العلة، و لكن هذا مختص بما وردت فيه هذه العلة، فلا توجد هذه العلة في غير هذا المحل، فالعلة هنا قاصرة على مورد النص، فلا يُلحق به غيره.
أما العلة المتعدية: فهي التي توجد في غير محل النص، فيمكن أن يُلحق به غيره، كالإسكار في الخمر، فإن الإسكار قد يوجد في غير مشروب العنب، فيُلحق به.
و هذا محل خلاف: هل العلة القاصرة تصلح للتعليل أو لا؟
1 – فقد ذهب المالكية و الشافعية: إلى صحة التعليل بالعلة القاصرة.
2 – و ذهب الحنفية و الحنابلة: إلى أن العلة القاصرة لا تصلح للتعليل، فَرَأَوْا أن خروج النجس من أي مكان من البدن: ناقض للوضوء إذا تفاحش، فمن استاك فخرج الدم من لِثَتِهِ فتفاحش، فذلك ناقض عند الحنابلة و الحنفية، و مثله: من جُرِح فخرج منه دم من ساقه أو يده أو غير ذلك، فإن تفاحش نقض عند الحنفية و الحنابلة، و لا ينقض عند المالكية و الشافعية، لأن العلة القاصرة لا تصلح للتعليل عندهم.
الحظر و الإباحة
و أما الحظر و الإباحة، فمن الناس من يقول: إن الأشياء على الحظر إلا ما أباحته الشريعة.
فإن لم يوجد في الشريعة ما يدل على الإباحة يتمسك بالأصل، و هو الحظر.
و من الناس من يقول بضده، و هو: أن الأصل في الأشياء أنها على الإباحة إلا ما حظره الشرع.
عقد هذا الباب لورود الحظر – و هو التحريم – بعد الإباحة الأصلية – أي: ما كان قبل ورود الشرع على أصل الإباحة و الجواز –.
و يقصد بهذا: ذكر الاستصحاب الذي هو حجة، و دليل من الأدلة الخلافية عند الأصوليين.
قال: " و أما الحظر و الإباحة، فمن الناس من يقول: إن الأشياء على الحظر إلا ما أباحته الشريعة ".
يقصد أن بعض الأصوليين يرى أن الأصل في الأشياء كلها: المنع، لأنها مملوكة للغير، فهي من ملك الله سبحانه و تعالى، فما لم يأذن فيه منها، فهو على أصل الحظر.
و هذا القول ضعيف جدا، لأن الله تعالى يقول: " خلق لكم ما في الأرض جميعا " فالأصل في حركات المكلف و سكناته و تصرفاته: الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه.
و هذا قال: " فمن الناس من يقول: إن الأشياء على الحظر إلا ما أباحته الشريعة، فإن لم يوجد في الشريعة ما يدل على الإباحة، يُتَمَسَّكُ بالأصل و هو الحظر ".
¥