قال: " و من شرط المفتي: أن يكون عالماً بالفقه أصلاً " أي: يُشترط للمفتي أن يكون عالما بالفقه، أي: بما يفتي فيه منه، و لا ينفي ذلك أن يكون جاهلا بجزئيات أخرى من الفقه، فالجزئية التي يفتي فيها لابد أن يكون عالما بها، لقول الله تعالى: " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحق و أن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون "، و لقوله تعالى: " و لا تقف ما ليس لك به علم ".
قال: " أن يكون عالماً بالفقه أصلاً و فرعا "، أي: عالما بأصوله، أي: بأدلته، و فرعا: أي بفروعه الناشئة عن تلك الأدلة.
قال: " خلافا و مذهبا " أي: في الخلاف العالي و الخلاف داخل المذهب، و هذا الذي قاله غير شرط في كل مفتٍ، فليس الحال كذلك في أيام الصحابة و لا في أيام التابعين و لا في أيام أتباعهم، و إنما يذكر هذا المتأخرون نظرا لتعصبهم للمذاهب.
قال: " أن يكون كامل الأدلة في الاجتهاد " أي: أن يكون تامَّ شروط الاجتهاد، بأن يكون عالما باللغة العربية، و بطرق دلالتها، و عالما بالأدلة الشرعية، و بالناسخ و المنسوخ منها، و بأنواع دلالاتها، و لا يُشترط بلوغ الكمال في ذلك، بل ما يتعلق بالمسألة التي يفتي فيها من ذلك، أي: المسألة التي يفتي فيها بالخصوص من ذلك، فلابد أن يكون مطلعا عليه.
فإن كان جاهلا بما ورد فيه مسألته التي يفتي فيها من الأدلة، أو بطرق دلالتها ن أو بمعانيها في اللغة، فلا يجوز له الافتاء في تلك المسألة.
و من هذا يُؤخذ تجزؤ الاجتهاد، و أن الانسان يمكن أن يكون مجتهدا في مسألة واحدة، و لا يُتقن الاجتهاد في غيرها.
قال: " عارفاً بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام، من النحو و اللغة و معرفة الرجال، و تفسير الآيات الواردة في الأحكام، و الأخبار الواردة فيها ".
ذكر أن من شروط المفتي أن يكون:
- " عارفاً بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام ": أي: في استخراجها من أدلتها.
و الاستنباط في الأصل: استخراج الماء من البئر البعيدة القعر، و المقصود به هنا: أخذ الأحكام من الأدلة، و قد سماه الله استنباطا في قوله تعالى: " و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ".
- " من النحو " أي: من قواعده و ما يؤثر في المعنى منها.
- " و اللغة " أي: علم مفرداتها، و مثل ذلك: الدلالات البلاغية.
- " و معرفة الرجال " أي: تراجمهم جرحا و تعديلا، و طبقاتهم حتى يعرف اتصال الإسناد أو انقطاعه.
- " و تفسير الآيات الواردة في الأحكام "، و لا يُشترط استظهارها، أي: حفظ متنها، فيجوز أن يكون لا يحفظ آيات الأحكام، و لكنه مطلع عليها، فيعرف ما ورد فيها من الأحكام.
- " و الأخبار الواردة فيها " أي: أخبار الأحكام، و هي أدلة الأحكام من الحديث، فيكون مطلعا عليها، و لا يُشترط حفظه لها، و لا استظهاره لها عن ظهر قلب.
- و هذه الشروط، هي شروط المجتهد المطلق، و لا يُشترط لكل مفت أن يتصف بها.
- و مثل ذلك المفتي في داخل مذهب من المذاهب، سواء كان مجتهد ترجيح، أو مجتهد تخريج، أو كان متبصرا، أو كان مجتهد فتيا، فلا يُشترط له التحقق بكل هذه الشروط.
- و يُشترط لوجوب الإفتاء:
1 – أن يكون ذلك في مسألة قد نزلت، فالمسائل التي لم تنزل بعد لا يجب على المفتي أن يعمل ذهنه و يكد في استخراج حكمها.
و قد مالك إذا سُئل عن مسألة يقول: " هل نزلت؟، فإن كان قد نزلت استعنا بالله عليها، و إن لم تكن قد نزلت، فإن لها رجالا يعاصرونها، فأولئك أدرى بحكم ما عاصرهم "، و كان يكره " أرأيت "، و يقول دعك من الآرائكيين، أي: الذين يقولون " أرأيت لو كان كذا " لأمر لم يقع.
2 – و أن يكون مكلفا، لأن غير المكلف، لا يلزمه الاجتهاد.
3 – و أن يكون سائلُه صاحبَ النازلة، أو يتعلق بها حكم له، فإن كان السائلُ غيرَ صاحبِ النازلة، و لا له اتصال به و لا تعلق به، لم تلزم إجابته.
و قد نظم أحدُ العلماء هذه الشروط فقال:
و عارفٌ مكلفٌ قد سألَهْ مكلفٌ عن الذي يجب لَهْ
سائلهُ خاف فوات النازلَهْ حتمٌ عليه أن يجيب سائلَهْ
باب ما يُشترط في المستفتي
¥