ويعلل الطوفي رحمه الله اشتراط ذلك فيقول: لأن المنسوخ بطل حكمه، وصار العمل على الناسخ، فإن لم يعرف الناسخ من المنسوخ أفضى إلى إثبات المنفي ونفي المثبت، وقد اشتدت وصية السلف واهتمامهم بمعرفة الناسخ والمنسوخ حتى روي عن علي رضي الله عنه أنه رأى قاصًّا يقص في مسجد الكوفة وهو يخلط الأمر بالنهي والإباحة بالحظر، فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت، ثم قال له: أبو من أنت؟ قال: أنا أبو يحيى، قال: أنت أبو اعرفوني، ثم أخذ أذنه ففتلها، وقال: لا تقص في مسجدنا بعد. وقصده: لا تعظ في مكان عام مع جهلك بالناسخ والمنسوخ.
رابعا: معرفة الإجماع والخلاف
مما يقل في طلاب الفقه معرفة خلاف الفقهاء وأدلتهم وهذا نقص ظاهر، خصوصا اختلاف الصدر الأول من الصحابة والتابعين قال الأوزاعي رحمه الله: العلم ما جاء به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما كان غير ذلك فليس بعلم. وكذلك قال الإمام أحمد رحمه الله، وقال في التابعين: أنت مخير، يعني مخير في كتابته وتركه. وقد كان الزهري رحمه الله (ت:124هـ) يكتب ذلك، وخالفه صالح بن كيسان رحمه الله (ت:140هـ) ثم ندم على تركه كلام التابعين. قال ابن رجب رحمه الله: وفي زماننا يتعين كتابة كلام السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد رحم الله الجميع.
واشترط الإمام أحمد في المفتي أن يعرف الخلاف، فقد قال في رواية: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالما بقول من تقدم، وإلا فلا يفتي، وقال في رواية أخرى: أحب أن يتعلم الرجل كل ما تكلم فيه الناس.
وقد قال الشاطبي في الموافقات: ولذلك جعل الناس العلم معرفة الاختلاف، فعن قتادة: من لم يعرف الاختلاف لم يشم الفقه. وعن هشام بن عبيدالله الرازي رحمه الله: من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه. وعن عطاء رحمه الله قال: لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه. وعن أيوب السختياني وابن عيينة رحمهما الله: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما باختلاف العلماء، زاد أيوب: وأمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء، وقال مالك: لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه. قيل له: اختلاف أهل الرأي؟ قال: لا، اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ... إلى أن قال الشاطبي - وما أحسن ما قال-: وحاصله معرفة مواقع الخلاف لا حفظ مجرد الخلاف.
ونقل ابن مفلح عن أحمد قال: قال سعيد بن جبير: من علم اختلاف الناس فقد فقه. وعن قتادة قال: قال سعيد بن المسيب: ما رأيت أسأل عما يختلف فيه منك، قال: قلت: إنما يسأل من يعقل عما يختلف فيه، فأما ما لا يختلف فيه فلمَ نسأل عنه؟ وقال سعيد بن جبير: أعلم الناس أعلمهم بالاختلاف.
ومن فوائد معرفة الخلاف: حصر الأقوال في المسألة حتى لا يقع إحداث قول مبتدع، قال السمعاني في قواطع الأدلة:"لأن إجماعهم على قولين إجماع على تحريم ما عداهما ... ".
ومنها: معرفة ما ينكر باليد، قال شيخ الإسلام:" ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها ولكن يتكلم فيها بالحجج، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه ".
ومن أعظم المزال، أن ينشأ المفتي على مذهب فقهي ويتعلم منه ويحفظ متنا فقهيا في ذلك المذهب، فإذا ما سئل عن مسألة فأول ما يتبادر لذهنه ما ورد في ذلك المتن الفقهي، ويغلب عليه، فلا يكاد يخرج عنه. والخروج من هذا المأزق في الاطلاع على أقوال الفقهاء الآخرين من كتبهم، والتأمل فيها وإعمال الذهن للوصول إلى الحكم الشرعي.
خامسا: معرفة القضية المبحوثة بالرجوع لأهل الاختصاص (الخبراء):
¥