و قد تحققت في القياسيين نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، و أصبح الخلاف ملازما لهم لكثرة سؤالهم، فالقياس و الخلاف قرينان لا يفترقان، و أكثر مسائل القياسيين فيها قولان أو أكثر، لأن قواعدهم في بناء الإحكام على القياس لا تؤدي إلى حكم واحد للفرع، فكان القياس القائم على السؤال الدائم هو الباعث على الخلاف كما بين لنا الحديث، فخالف القياسيون بذلك قول الله تعالى (أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه)، و ذلك بأن أضافوا للدين أحكامهم المقاسة والمقرونة بالخلاف ففرقوا الدين بتفرق أقوالهم في الأحكام المقاسة.
و قد قال تعالى (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)، فلو كان القياس من الدين لما وقع فيه خلاف، فقد تكفل الكتاب بنص الآية ببيان ما يحسم الخلاف في أمور الدين.
كما وصف الله تعالى من اختلف بعد أن جاءته البينات بالبغي فقال (وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم). و ذلك أن الاعتصام بالبينات وحدها هو الكفيل بتجنب الخلاف، ولو كان القياس من البينات لما أدى إلى الخلاف.
وقال تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)
و مادام الله قد أمرنا برد التنازع إلى الله و رسوله فلابد أن يؤدي هذا الرد إلى حسم التنازع، و لا يمكن ذلك إلا بالنصوص ذات الأحكام الواضحة الظاهرة التي تميز بين الحق و الباطل، أما الأحكام المختلف فيها كالأحكام المقاسة الظنية فلن تحل التنازع أبدا، فالتقلب بين الراجح و المرجوح لا يحل تنازعا لاختلاف الترجيح باختلاف الأفهام، و سيصبح الأمر في الآية من باب التكليف بما لا يُطاق.
و كفى بذلك عبرة لمن رأى أن الفقهيات فيها شئ من الظن.
الدليل الثالث:
قول الله تعالى (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء)
فهذا دليل ظاهر أن النص قد بين كل شئ من أمر الدين، و لو كان القياس من الدين لاستوفاه النص بالبيان، و لكن النص لم يتحدث قط عن القياس باسمه أو العلة أو مسالك استنباطها أو قوادحها.فكيف يكون الكتاب تبيانا لكل شئ ثم يترك الله تعالى هذه الأمور المعقدة ليضعها الناس بعقولهم؟
و قال تعالى (أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم) فبطل بهذا النص كل ما لم يوصنا الله تعالى به من أمر الدين، و لما كان الله تعالى لم يوصنا بالقياس فكفى بذلك دليلا لإبطاله.
و صدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذ قال (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) و قد غلب القياسيون الدين ففروعهم المسكوت عنها أكثر من الأصول المنصوص عليها! بل قد قال الجويني (إن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة) (!!) فليت شعري أين يسر الدين في هذا؟
الدليل الرابع:
قول الله تعالى (قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم)
و في ذلك بيان أن كل ما لم يحرمه الله لا يجوز لأحد أن يشهد بتحريمه، فقد فصل الله تعالى كل المحرمات و دليل ذلك قوله تعالى (و قد فصل لكم ما حرم عليكم) و لكن أصحاب القياس يشهدون بتحريم أمور سكت الله تعالى عنها و لم يفصل تحريمها و يلحقونها بما حرمه الله بجامع اشتراك علة استنبطوها بعقولهم و لم يفصل الله بيانها!
الدليل الخامس:
حديث (عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه – قال: هششت يوما فقبلت وأنا صائم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت صنعت اليوم أمرا عظيما فقبلت وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم قلت لا بأس بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ففيم)
و في هذا الحديث استخدم عمر القياس، و أبطله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فقد قاس عمر القبلة على الجماع بجامع اشتراك العلة و هي الشهوة، فأبطل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هذا القياس،.و بين أن الصفة التي تبدو مؤثرة (العلة) ليست كذلك، و ضرب لذلك مثلا و هو منزلة المضمضة من الشرب، فالمضمضة لا تبطل الصوم و الشرب يُبطله رغم الشبه بينهما و اشتراكما في صفة قد تبدو للبعض علة مؤثرة و هي دخول الماء للفم.
¥