لأنه لا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره أو تجاوز إيقاع الاسم على مسماه في اللغة في نص بعينه دون مجوز من النص. و إن لم نفعل ذلك لفتحنا الباب أمام الفرق الباطنية لصرف الألفاظ عن معانيها.و تعطيل الأحكام، و لفقد النص مهمته في البيان.
الصواب المعمول به عند جماهير أهل العلم أن فهم النصوص يجب أن يكون مبنيا على جمع هذه النصوص جميعا، والتأليف بينها وعدم ضرب بعضها ببعض!!
وإذا أتى لفظ بمعنى في نص، فليس شرطا أن يكون بهذا المعنى في كل نص.
وفي فهم كلام الشارع لا بد من تتبع الألفاظ في مظانها، وفهمها على مقتضى سياقاتها الواردة فيها، وليس بالنظر في نص واحد دون غيره!، وكذلك بالاهتداء بكلام العرب في فهم المعاني. و أنا أتفق معك في كل ذلك، و ليس في كلامي ما يخالفه.
أتيتَ إلى قوله تعالى: {وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} {وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} فجعلتهما محكمين، وضربتَ بباقي النصوص عرض الحائط؟!!
قول مجمل بحاجة إلى توضيح (!!)
لفظ العلم لا يشترط أن يفيد القطع؛ قال تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار}، الأصل في اللغة أن العلم يفيد القطع، و وفي الآية السابقة صرفنا لفظ العلم عن معناه لوجود المجوز و هو قوله تعالى (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) و هذا الصرف يقتصر على الآية وحدها و لا يتعدها إلى غيرها، أي أنه في الآيات الأخرى يبقى لفظ العلم على معناه و يفيد القطع حتى يأتي المجوز الذي يجعلنا نتجاوز معناه اللغوي.
فصرف اللفظ عن معناه اللغوي في أي آية يلزمه وجود المجوز أو القرينه التي تفرض ذلك و هذا الصرف يقتصر على الآية فقط و لو تعدى إلى غير الآية لدخلنا في المعاني الباطنية، ولجاء من يقول مثلا إن المراد بقطع يد السارق هو جرحها فقط لأن الله تعالى قال (ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم)،هذه الآية فيها المجوز فصرفنا القطع عن معناه و هو البتر، و هذا الصرف لا يمتد إلى آية قطع يد السارق و إلا لبطل النص.و قد قالت إحدى الفرق الباطنية أن المراد بقطع يد السارق جرحها فقط استنادا إلى صرف معنى القطع عن معناه في الآية فألحقت هذا الصرف بآية السرقة دون مجوز من النص!
و أنت بمحاولة صرف لفظ العلم عن معناه دون مجوز تقع في نفس الخطأ.
هل خالف بعضُ الصحابة نصوص الكتاب والسنة أحيانا أو لا؟
إن قلت: لا، كان كلامك واضح البطلان؛ لكثرة ما ورد عنهم في ذلك، لأن اختلافات الصحابة لا تحصر.
وإن قلت: نعم، قلنا: فهل الصحابي الذي خالف السنة في بعض المسائل تكلم بعلم في هذه المسألة أو تكلم بظن؟
إن قلت: تكلم بعلم، فقد أخطأت؛ لأنك زعمتَ أن العلم يفيد القطع، ولا يمكن أن يقطع الصحابي بشيء مخالف للسنة.
وإن قلت: تكلم بظن، فقد خالفت نفسك؛ لأنك زعمت أن الكلام بالظن محرم؛ والصحابة لا يجتمعون على فعل المحرم.
وصواب الجواب في هذه المسألة؛ أن هذا الصحابي تكلم بعلم، ولكنه ليس بالمعنى الذي تفهمه أنت بأن العلم قطعي؛ بل العلم هو معرفة الراجح والمرجوح، فمن تعارضت لديه الأصول أو الأدلة أو القواعد فأخذ بأقربها إلى الحق في نظره، أو بأشبهها بالنصوص لم يكن قائلا بالظن المذموم، بل كان عاملا بدليل راجح لديه. أقول الصحابي تكلم بعلم، و ليس بالمعنى الذي تقوله (و هو الترجيح) و لكنه كان يريد القطع، فالصحابي تكلم في حدود ما لديه من العلم، و كان يقطع بناء على ما علم، و في ردي السابق على اعتراضات الأخ أبي إسلام فصلت القول في هذه المسألة و أوضحت أن احتمال الخطأ لا يقدح العلم، و أن الله تعالى أذن أن يتحقق العلم بخبر الواحد الثقة رغم احتمال الخطأ أو النسيان، و أن على الإنسان أن يقطع بما يعلم، فراجعه.
وسؤال آخر:
إذا نظر الفقيه في مسألة من المسائل فرأى أن الأدلة أو القواعد أو الأصول تعارضت لديه، واختلفت وجوه النظر عليه، ثم رأى أن أقربها إلى الحق في وجهة نظره كذا وكذا، وأن أشبهها بنصوص الكتاب والسنة كذا وكذا، ولم يستطع أن يقطع فيها بحكم، فأنت هنا بين أمور:
إما أن تقول له: توقف ولا تفتِ في هذه المسألة إلا بقطع ويقين، وحينئذ تتعطل مصالح العوام والمستفتين؛ لأن كثيرا من المسائل التي يسألون عنها من هذا الباب.
وإما أن تقول له: يفتي بما رأى أنه مرجوح لديه مع عدم اقتناعه به؛ لأنه هو العفو المأمور به {وما سكت لكم فهو عفو}، وحينئذ تقع في قول لم يقل به أحد من الفقهاء؛ فما علمنا أحدا من الفقهاء قط أفتى بما يترجح له خلافه.
وإما أن تقول له: يفتي بما رأى أنه الراجح لديه، وحينئذ تقع في التناقض؛ لأنه أفتى عندك بظن، والفتوى بالظن حرام لا تجوز.
مادامت المسألة مسكوت عنها فعليه أن يرجع إلى الضوابط الشرعية لإلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه و التي أوضحتها في الفصل الأول هنا:
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showpost.php?p=460697&postcount=2
فإن لم يجد سبيلا إلى هذا الإلحاق فعليه أن يأتمر بأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - و يقول (إن الله سكت عن ذلك غير نسيان فلا تسألوا عنه)
فهل تجد حرجا في ذلك؟
أليس هذا الأمر الصريح للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟
وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين
والله إني لأعجب من الفهم المقلوب للنصوص!
هل ظن هؤلاء الكافرين هنا من الظن الراجح يا عاقل؟!
بنص كلامهم يقولون: (ما ندري ما الساعة)؛ والذي يخبر عن نفسه أنه لا يدري كيف يكون ظنه راجحا؟!
فالنص واضح جدا أن ظنهم مرجوح.
أولا:
دل أن ظنهم هو الظن الراجح قوله تعالى (و ما نحن بمستيقنين)
فما فائدة نفي اليقين إن لم يكن ظنهم يعني كل ما دون اليقين و منه الظن الراجح؟
ثانيا:
الإشكال عندك في معنى لفظ أدري، فمفاد كلامك أن من كان ظنه راجحا لا يصح أن يقول لا أدري (!!!!!!!)
و أصل الدراية في اللغة هي العلم و قد تستخدم بمعنى الحصول على العلم بضرب من الحيلة، فلا حرج لمن كان ظنه راجحا أن يقول لا أدري، وراجع أقوال المفسرين في قوله تعالى (وما أدراك) و (وما يدريك) فيرتفع الإشكال.
¥