لقد كان الإمام أحمد يكره وضع كتب التفريع و يأمر بالاكتفاء بالنص و تجريد الكتب من كل شئ عدا النص كما ذكر ابن الجوزي في المناقب.
الشريعة كاملة ولا نقص بها ليكمله المجتهدون، ولكن الناس تتفاوت في الفهم {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}، ولو كان فهم الشريعة متساويا عند جميع الناس لم يكن للعلماء فائدة، ولم يكن لسؤال أهل الذكر فائدة، ولما تفاوت أهل العلم في فهم المسائل الدقيقة {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}؛ فنص على أن الاستنباط يختص ببعض الناس دون بعض، وليس الناس على درجة واحدة من العلم والفهم.
فقد يكون الفهم دقيقا يحتاج إلى ثاقب بصر وتوسع في البحث والفحص من العالم لكي يجتهد ويصل للحكم الشرعي.
نعم الناس تتفاوت في الفهم و يقع الخطأ، و لكن المؤمن يستطيع الفهم عندما يبين له العالم الحكم و الدليل عليه،و قد تقدم قول الله تعالى (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) و المؤمن ليس على قلبه قفل يُعجزه عن تدبر القرآن و فهم الدليل.
أما حديثك عن آية الاستنباط فلا يتعلق بالأحكام الشرعية و لكن بأنباء الحرب، و معنى (لعلمه الذين يستنبطونه) لعلموا ما ينبغي أن يفشى من حديث الحرب وما ينبغي أن يكتم.
راجع أقوال المفسرين في الآية و دع التقليد قليلا ..
و الاستنباط يعني استخراج الأمر من الخفاء، و لا يصح وصف الأحكام الشرعية بأنها خفية بعد أن بينها الله و أظهرها لعباده.
وقصة ابن مسعود رضي الله عنه مشهورة لما سئل عن امرأة تزوجها رجل ولم يفرض لها صداقا، ومات ولم يدخل بها، فحكم فيها ابن مسعود برأيه أن لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط، ولم يكن لديه في ذلك نص، وإنما حكم بناء على ما عنده من القواعد الشرعية العامة، ثم أخبره بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بمثل حكمه.
ومعلوم أن حكم ابن مسعود قبل أن يصله النص فيه تغريم المال لورثة الميت بدفع مثل هذا الصداق، ومعلوم أن مال المسلم محفوظ لا يحل إلا بدليل، فعلى قولكم يكون ابن مسعود حكم بالظن المحرم، وأفتى الناس أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل!!
هذا الحديث حجة عليك ..
لأن فيه البيان أن ابن مسعود التزم بأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - و رأى عدم جواز وضع حكم لأي أمر مسكوت عنه و إليك نص الحديث:
عن ابن مسعود أنه أتاه قوم فقالوا إن رجلا منا تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ولم يجمعها إليه حتى مات فقال عبد الله ما سئلت منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد علي من هذه فأتوا غيري فاختلفوا إليه فيها شهرا ثم قالوا له في آخر ذلك من نسأل إن لم نسألك وأنت من جلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بهذا البلد ولا نجد غيرك قال سأقول فيها بجهد رأيي فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه برآء أرى أن أجعل لها صداق نسائها لا وكس ولا شطط ولها الميراث وعليها العدة أربعة أشهر وعشرا قال وذلك بسمع أناس من أشجع فقاموا فقالوا نشهد أنك قضيت بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة منا يقال لها بروع بنت واشق قال فما رؤي عبد الله فرح فرحته يومئذ إلا بإسلامه
أرأيت كيف رفض الرد شهرا كاملا؟
لو كان القياس عنده جائزا فلم لم يستخدمه من البداية؟
أرأيت كيف كان يرى الحديث في أمر مسكوت عنه شديدا على النفس؟
و عندما تكلم ألم يبين أنه قد يكون مخطئا و لم يحمله على الكلام سوى إلحاح القوم بالسؤال شهرا، و كان هذا نفس فعل عمر في مسألة العول و فعل أبي بكر المتقدم، فهم لم يحكموا بالظن إلا عند الاضطرار عندما يُعرض عليهم النزاع و يبينون أنهم لا يدرون إن كان حكمهم صوابا أم خطأ حتى لا يظن أحد أنه حكم لازم.و هم لم يسبقوا النزاع و يضعوا الحكم كما يفعل أصحاب القياس.
أما حديثك عن حديث (إنما جُعل الإذن من أجل البصر) فلا يُثبت شيئا، لأنه من غير المنطقي أن ينهانا الله عن التجسس و تتبع العورات ثم يريدنا أن نستنبط تحريم ذلك من آية الاستئذان.
و الرجل لم يستأذن أصلا مع استراق النظر حتى تظن به الجمود على آية الاستئذان!
ـ[نصر الدين المصري]ــــــــ[12 - 09 - 06, 09:56 ص]ـ
أنت تعلم أنهم حكموا في عشرات إن لم يكن في مئات الحوادث بغير نص، فمتى قال واحد منهم: إنني أفعل ذلك مضطرا اضطراري إلى الميتة؟!
أين هي عشرات الحوادث تلك؟
لم تأتني إلا بحادثة العول التي حكم فيها عمر و حادثة ابن مسعود الأخيرة، و ربما لم يصح غيرهما.
أما الاضطرار فبرهانه:
عندما يُعرض على القاضي قضاء فيه نزاع بين متنازعين .. هل سيكون مضطرا إلى البت فيه أم يترك المتنازعين يتنازعون، و قد يصل الأمر بينهم إلى الخصومة أو الاقتتال؟
ألم ينه الله تعالى عن التنازع؟ فكيف يقره القاضي؟
¥