وأجيبك بجواب آخر، وهو أن أقول لك:
إن رسول الله لم يتركنا نتشتت في أمر القياس، فهو أمر واضح عند العقلاء، وقد أخذ به عشرات بل مئات من العلماء، ونَقَلَ عشرات آخرون إجماعَ السلف عليه، فالتشتت عندكم أنتم وليس لدينا ولله الحمد.
إن أمر القياس أعظم من أمر الصلاة والحج والزاكاة فبالقياس تحرم وتحلل الدماء والفروج والبيوع فهو شرع يشرع به
فكيف تركه لنا النبي صلى الله عليه وسلم مجهولا لا نستطيع أن نصل إليه إلا بالتأويلات والظنون
عثمان رضي الله عنه لم يكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) بين الأنفال والتوبة فلما سئل عن ذلك قال: قبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها ورأيت قصتها شبيهة بقصتها.
فكيف ترك رسول الله هذا الأمر مجهولا ليصل إليه (عثمان) بالتأويلات والظنون؟
المشكلة عندكم جميعا أنكم لم تقرأوا، ولم تتعلموا، ولم تطلعوا على كتب أهل العلم، واليقين عند أهل العلم ظنون وأوهام عند العوام، ظننتم ظنا باطلا وهو أن جميع أمور الشرع لا بد أن تكون واضحة قطعية كالشمس، وهذا ظن باطل مخالف لاتفاق أهل العلم، ولا يقول به من له أدنى اطلاع على كلامهم، وقد ناقش شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الأمر وأثبت خطأه في مجموع الفتاوى.
... أما القاعدة التي دائما ترددها وهي أن أدلة القياس تؤخذ من مجموعها وليس من أفرادها
يأأخي هذا كلام غير دقيق علميا
ياأخي الكريم إن الذي تتكلم فيه دين وليس نظرية علمية تجري لها تطبيقا عمليا لترى النتائج سليمة أم سقيمة
هذا الكلام يدل على أنك لم تفهم المقصود من كلامي.
المقصود أن الدليل قد يكون ظنيا، ولكنه إذا انضم إلى أدلة ظنية أخرى ازداد قوة، فإذا كثرت هذه الأدلة جدا ازداد قوة جدا حتى صار أقرب إلى اليقين، وهذا الأمر معمول به في جميع العلوم بلا استثناء.
وأنت (يا أخ جلمد) تفعل هذا تماما في عملك في علم الحديث، فإذا جاء الحديث من رواية عشرين راويا جميعهم من الثقات، ثم رأيت خمسة عشر منهم اتفقوا على لفظ وخمسة انفردوا بلفظ آخر، فإنك ترجح لفظ الأكثر، والترجيح بالأكثر ليس له قاعدة ثابتة بمعنى أنه ليس لدينا عدد معين نرجح به، بل هذا راجع إلى القرائن، وهذا أمر أنت تعلمه جيدا من اطلاعك على طرق إعلال أئمة الحديث، وبرغم أن الناقد يكون على ثقة من كلامه في علل الحديث، فإن علماء العلل يختلفون، ولم يقل أحد منهم قط: إن كلامي قطعي، وكلام غيري ظني باطل، وابن معين لما قال (من الكذاب الذي روى هذا الحديث عن عبد الرزاق) قال له أبو الأزهر: أنا، فقال ابن معين: أنت لست بكذاب، والعهدة على غيرك، فكيف جزم (ابن معين) بأن الراوي عن عبد الرزاق كذاب، ثم رجع عن ذلك؟!
معرفة نصوص الحديث الشريف مبنية على علم الحديث وعلله، فإن كنت تزعم أن علم علل الحديث قطعي فلا نقاش معك، وكفى بذلك دليلا على بطلان قولك؛ لأن كثيرا من أقوالك مخالفة لمن سبقك من أئمة العلل، فإما أن تقول: هذا اجتهاد ظني منك، فيمكن أن نقبله، وإما أن تقول: (بل هو حق قطعي يقيني، وقد غاب عن المتقدمين جميعا)، فهنا لا كلام.
أنت كل أدلتك التي ذكرتها أو التي إطلعت عليها أنا حتى الآن هي بعض فتاوي الصحابة وأكثرها سندها ضعيف
وبعض الأمثلة
وبعض الأحاديث التي تدعي أن محمد صلى الله عليه قد قاس فيها
وهذه الأحاديث غيرك يرى أنها لم يقصد بها القياس كالإمام البخاري وغيره فهي مردودة عليك
أما الآثار فعلى فرض صحة أكثرها هناك نزاع في أنهم كانوا يقصدون بها القياس
ولكن المهم
أين دليلك من الكتاب والسنة التي تتعبد به لله عز وجل
والذي سوف يسئلك عنه الله يوم القيامة
يجب أن تثبت القياس أولا من الكتاب والسنة بدليل محكم ثم تبني عليه بعد ذلك
فمثلا الزاكاة التي فرضها الله عز وجل على عبادة أليست هذه عبادة
مادليلك على وجوبها
هل لأن الناس يقومون بها
أو أن الصحابة كانوا يقومون بها
لا
بل دليلك القرآن الكريم
إن القياس أمره أعظم من الزكاة والصلاة
فهو على مفهوم كلامك شرع كامل تحرم به وتحلل
يا أخي الكريم، لقد فرقتُ لكم كثيرا جدا بين ذكر الدليل وفهم الدليل، وهذا هو محك النظر هنا؛ فإن الأخ نصر الدين ذكر أدلة على إبطال القياس، فلا يصح لي أن أقول له: لم تذكر أدلة، ولكن الصواب أن أقول له: هذه الأدلة لا تصح بسبب كذا وكذا.
¥