وكذلك أنا ذكرتُ له أدلة على صحة كلامي، فلا يجوز لك ولا له أن تقولا: لم تذكر أدلة، بل الصواب أن يقال: فهمي للأدلة غير صحيح بسبب كذا وكذا.
إذن فالنقاش صار في فهم الأدلة وليس في ذكر الأدلة، وهذا يقتضي بنا أن نرجع للأصول والقواعد التي يُفهم الكلام على أساسها (وهو علم أصول الفقه الذي لا تقرون به).
ومن ذلك فهم الكلام على مقتضى لغة العرب - كما أقر الأخ نصر الدين ووافق على ذلك - وفهم الكلام على مقتضى لغة العرب هو الذي جعلنا نضرب الأمثلة لتقريب الأمر لكم؛ كالمثال الذي ذكرناه في كلام الأب لابنه.
وفي أول الأمر لم ينازع الأخ نصر الدين في ضرب المثال نفسه، وإنما ظل يجادل في معنى المثال، ثم لما ضاقت به السبل وظن أنه قد أحيط به نكص على عقبيه وقال: كلام رب العباد يختلف عن كلام العباد!!
وهذه حيدة ظاهرة جدا تكفي في انقطاع المناظر عند أهل العلم؛ لأنه وافق أولا على الرجوع في فهم كلام رب العباد إلى كلام العرب، ثم لما سألناه عما يفهمه من كلام العرب تناقض فقال: فهم كلام الله يختلف عن فهم كلام الناس!
والأخ نصر الدين لما ذكرتُ له أن الصحابة وجميع العلماء اختلفوا في فهم النصوص ودلالتها ذكر أن النصوص لا تحتمل الفهوم المتعددة!!
وبرغم أن هذا كلام واضح الخطأ لا يصدر ممن له أدنى اطلاع على كلام أهل العلم، فقد ناقشته فيه، فذكر أن الخطأ إما أن يكون بسبب الجهل بكلام العرب، أو بعدم التدبر والقفل على القلب!
فذكرتُ له أن الصحابة كانوا أعلم الناس بكلام العرب، ولم يكن على قلوبهم أقفال، فلماذا اختلفوا في فهم النصوص؟
ولما رأيت أنكم مضطربون هكذا وليس عندكم أصول محكمة ترجعون إليها سألتُ الأخ نصر الدين عدة أسئلة لتقرير بعض الأصول التي يبنى عليها النقاش، فذكر أنه لن يجيب عن أسئلتي حتى آتيه بالدليل على صحة القياس؟!
وهذا دَوْرٌ باطل؛ فكيف تريدني أن أثبت الفرع قبل الأصل؟ لا بد من الاتفاق على القواعد العامة أولا قبل النقاش فيما يتفرع عنها.
فأين دليلك المحكم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
وأقصد بالمحكم هو عكس المتشابه الذي نهانا الله عن اتباعه كما قال تعالى " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ "
وأنت أين دليلك المحكم من كتاب الله وسنة رسوله على صحة حديث (مالك عن نافع عن ابن عمر)؟
وأين دليلك المحكم على تقديم كلام المتقدمين من علماء العلل على المتأخرين؟
وأين دليلك المحكم على أن هذه الآية لها تعلق بما نحن فيه؟
هل هذه الآية تدل على أن كل شيء أستدل عليه يحتاج إلى دليل محكم؟
وهل أنت أصلا تفهم هذه الآية؟
الله عز وجل وصف كتابه كله بأنه محكم {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت}، ووصفه كله بأنه متشابه {كتابا متشابها مثاني}، ووصفه بأن منه المحكم ومنه المتشابه كالآية التي ذكرتَها، فهل تعرف ذلك؟ وهل تستطيع أن تجمع بين هذه الآيات؟
يا أخي الكريم جميع العلوم لها أسس وأصول عامة متفق عليها بين أهلها، وأنت تعرف ذلك في اشتغالك بعلوم الحديث، وهذه الأسس والقواعد العامة عرفها المشتغلون بهذه العلوم من عشرات بل مئات الأمثلة والنظائر التي تعطي اليقين بهذه القواعد، مع أن كل فرد من أفراد هذه النظائر والمسائل لا يفيد القطع كما هو واضح.
**** وأخيرا أقول كلمة واحدة لمن يثبت القياس
فلتأت لنا بدليل من القرآن والسنة بذلك
حتى نناقشه
وحتى تكون مناقشة علمية سلمية
وحتى نصل إلى نتيجة واضحة
لأننا في نهاية الأمر مسلمون
وسوف يسألنا الله عز وجل يوم القيامة عن أفعالنا وأقوالنا
وسوف نقف بين يدي الله عز وجل ليس بيننا وبينه حجاب
أنت تفهم كلمة (دليل) على معنى معين، وهو أنه يُقصد بها نص من القرآن والسنة فقط، وهذا الفهم غير صحيح، بل أجمع العلماء على خلافه، ولو نظرتَ في كلامك السابق لوجدتَ أنك ذكرتَ كثيرا من الأمور التي لم ترد في الكتاب والسنة نصا؛ كقولك (أمر القياس أعظم من الصلاة والزكاة) فهذا الكلام ليس نصا في القرآن والسنة، فمن أين أتيتَ به؟ وأيضا قولك بأن (الأدلة محصورة في نصوص الكتاب والسنة فقط) لم تأتِ بنص فيه، بل النصوص تدل على خلافه {يحكم به ذوا عدل منكم} {فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} ... إلخ.
وإذا أتيناك بالدليل فهل ستسلم به؟ كلا، ستقول: هذا ليس بدليل، أو لا يفهم من هذا الفهم، أو سنده فيه كلام، أو نحو ذلك من الردود.
إذن فالعبرة ليست بذكر الدليل، وإنما العبرة بفهم الدليل وهو ما وقع خلافنا فيه.
ولذلك ذكرتُ للأخ نصر الدين أنه ينبغي أن يكون لنا مرجع في فهم النصوص، وهو زعم أن كل إنسان على ظهر الأرض له أن يفهم النصوص كما شاء، بل زعم أنه يصح له أن يفهم النصوص بفهم لم يفهمه أحد من العلماء السابقين!!
ولذلك ذكرتُ له أن هذه القاعدة يجب تقريرها أولا لأنها أعظم من موضوع القياس.
فإذا كنتم تقولون: يجوز لكم أن تفهموا النصوص بفهم لم تسبقوا إليه، فلا كلام معكم؛ لأن معناه أن الأمة كانت على ضلال وباطل لمئات السنين حتى وفقتم أنتم إلى الحق الذي فاتهم!!
وكفى بهذا القول ضلالا وباطلا من قائله!!
¥