والذريعة هي الوسيلة، فهذا القسم وهو ما كان من الوسائل مستلزماً لا نزاع فيه، والعقد الأول (أي في بيع العِينة) ليس مستلزماً للعقد الثاني؛ لأنه قد لا يسمح له المشتري بالبيع أو ببذلهما، أو يمنع مانع آخر؛ فكل عقد منفصل عن الآخر لا تلازم بينهما؛ فسدُّ الذرائع الذي هو محل الخلاف بيننا وبين المالكية ـ أمرٌ زائد على مطلق الذرائع وليس في لفظ الشافعي تعرُّض لهما، والذرائع التي تضمنها كلام لفظه لا نزاع في اعتبارها. (ثم ذكر كلام القرافي السابق ثم قال):
فالذرائع هي الوسائل وهي مضطربة اضطراباً شديداً: قد تكون واجبة، وقد تكون حراماً، وقد تكون مكروهة ومندوبة ومباحة. وتختلف أيضاً مع مقاصدها، بحسب قوة المصالح والمفاسد وضعفها، وانغمار الوسيلة فيها وظهورها، فلا يمكن دعوى كلية باعتبارها ولا بإلغائها، ومن تتبع فروعها الفقهية ظهر له هذا، ويكفي الإجماع على المراتب الثلاث المذكورة في كلام القرافي ... ) (1).
إذن الشافعي يوافق الإمام مالك والإمام أحمد في المنع من الذرائع المستلزمة للمحرم.
وإذا تقرر ما سبق فإن الذرائع المستلزِمة للمحرَّم محرَّمة إجماعاً، والذرائع التي لا توصِل إلى المحرم إلا نادراً مجمَع على عدم المنع منها، وما بين هاتين المرتبتين وقع الخلاف فيه بين أهل العلم.
لكن إذا كان يغلب على الظن إفضاء الذريعة إلى المحرَّم؛ فهل نقول بأن المنع منها محل إجماع بين أهل العلم؛ لأنه كثيراً ما يلحق العلماء الظن الغالب بالقطع في الأحكام؟
لا أستطيع القطع بذلك، لكن المظنون بأهل العلم القول بالمنع منها، وقد قال العز بن عبد السلام الشافعي: (ما يغلب ترتُّب مسبَّبُه عليه وقد ينفك عنه نادراً فهذا أيضاً لا يجوز الإقدام عليه؛ لأن الشرع أقام الظن مقام العلم في أكثر الأحوال) (2).
فإذا كان هذا هو رأي إمام من أئمة الشافعية في كتاب ألفه في مصالح الأنام فغيره من باب أوْلى أن يقول به.
والخلاف الذي يقع بين أهل العلم في بعض المسائل التي مردّها إلى مسألة سد الذرائع، إما أنه خلاف راجع إلى خلافهم في بعض شروط العمل بسد الذرائع، وإما أنه خلاف راجع إلى اختلاف نظرهم وفهمهم للمسألة أو للأمور المُحْتَفَّة بها، كما نجد الخلاف عند علماء أهل السنة الذين يوجبون العمل بما صح من الأحاديث في الأحكام الشرعية؛ ومع ذلك نجد الخلاف عندهم في بعض المسائل التي اطَّلعوا كلهم على دليلها؛ وذلك لاختلافهم في بعض شروط الحديث الصحيح؛ فمنهم من يقبل زيادة الثقة إذا لم تخالف رواية من هو أوثق، ومنهم من لا يرى ذلك بل له تقعيد آخر في مسألة زيادة الثقة، أو أن خلافهم راجع إلى فهمهم أو طريقة استنباطهم الحكم من الحديث، مع أن الحديث واحد، والحديث قد اطلع عليه كلا الطرفين.
تنبيه ذكره القرافي: (اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح؛ فإن الذريعة هي الوسيلة؛ فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة) (3).
ü إعمال المصالح (4):
والمصالح عموماً تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ قسم شهد الشرع باعتباره، وهذا لا شك في إعماله؛ لأنه القياس.
2 ـ قسم شهد الشرع بإبطاله، كالمصلحة الموجودة في الخمر والميسر من متاجرةٍ بها وإنعاشٍ لاقتصاد البلد وجلبٍ للسياح، {قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] فهذا القسم لا شك في إبطاله.
3 ـ ما لم يشهد نص معيَّن من الشارع باعتباره ولا بإهماله، وهو ما يسمى بـ (المصالح المرسلة) ككتابة المصحف بعد وفاة النبي #، وعهدِ أبي بكر إلى عمر بالخلافة، وحرقِ عثمان المصاحفَ سوى المصاحف التي كتبها، وتدوين الدواوين، واتخاذ السكة (5)، قلت: ومثلها في الوقت الحاضر الأنظمة التي تصدرها بعض الدول محققة لمصلحة الناس غير مصادمة للشرع.
وهذا القسم هو الذي وقع فيه الخلاف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به؛ فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعُبَّاد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع .. وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعاً بناء على أن الشرع لم يَرِدْ بها، ففَّوت واجبات ومستحبات، أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه) (6).
¥