المقدمة الثانية: أنه قد تبين لك مما سبق أنه لايوجد دليل شرعي واحد يوجب التقليد أو يجيزه، ــ كما قرره الشوكاني فيما نقلناه عنه ــ حتى يخصص هذا الدليل أدلة وجوب الاتباع المذكورة في المقدمة الأولى.
بناء على هاتين المقدمتين: يكون الاتباع واجباً على كل مسلم، ولهذا الاتباع مرتبتان في حق المستفتي، وهما:
المرتبة الأولى: لمن لديه قدرة على فهم الأدلة، فالاتباع الواجب عليه: أن يسأل المفتي عن دليل الفتوى من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس أو غيرها، ويعرف وجه الدلالة فيه على الحكم.
المرتبة الثانية: لمن يعجز عن فهم الأدلة، فالاتباع الواجب عليه: أن يسأل المفتي عن فتواه فيقول له: أهذا حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟، فإن أجابه بنعم، قَبِل فتواه. كما ذكره ابن حزم والشوكاني وابن دقيق العيد. والحق أن هذه المرتبة لايعجز عنها أحد، وإنما ينقص الناس أن يعلموا بوجوبها.
وعلى هذا لا يبقى موضع لجواز التقليد إلا موضعاً واحداً، وهو عجز المستفتي عجزاً حقيقياً عن الوصول إلى من يفتيه بالدليل الشرعي تفصيلا كما في المرتبة الأولى أو إجمالا كما في المرتبة الثانية، مع قدرته على الوصول إلى من يفتيه بالتقليد بغير حجة ولا دليل. وبهذا تعلم أن الاتباع هو الحكم الأصلي وأن التقليد إنما هو استثناء للمضطر العاجز عن الاتباع بمرتبتيه.
ومع هذا فإن المقلد ــ حيث يسوغ له التقليد للضرورة ــ يأثم ويُذم في مواضع سيأتي ذكرها إن شاء الله.
وليس إيجابنا للاتباع إيجاباً للإجتهاد، لما ذكرناه من الفرق بينهما، خاصة فيما سبق من كلام الشنقيطي.
ويجب على كل مشتغل بالعلوم الشرعية أن يحض الناس على الاتباع وأن يبدأ بنفسه، كما يجب على الشبان المتدينين إحياء هذا الأمر، لنشر العلم ورفع الجهل، وقطع الطريق على أدعياء العلم الذين يضلون الناس بأهوائهم بغير علم. بهذا يصلح حال الأمة إذ لن يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، وبهذا لا يقع المسلمون في الذم الوارد في قوله تعالى (وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً) الفرقان 30، والتوبيخ الوارد في قوله تعالى (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد 24. أما قول البعض إن المفتي قد يخدع المستفتي فيذكر له دليلا وهو خلاف الحق في المسألة ــ كما هو شأن الفرق المبتدعة ــ والمستفتي لايميز ذلك، فجوابه أن سنة الله تعالى في هذا أن الله يقيض له من يفضحه ويكشف ضلاله حتى يصير عبرة لأمثاله، قال تعالى (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) الأنبياء. هذا والله تعالى أعلم.
سادسا: متى يُذم المقلد؟
يأثم المقلد في أحوال ويُنكر عليه فيها، منها:
1 ــ إذا كان قادراً على الاجتهاد (الاستدلال) وعدل عنه إلى التقليد المحض، قال الشنقيطي رحمه الله (أما ماليس من التقليد بجائز بلا خلاف؟ فهو تقليد المجتهد الذي ظهر له الحكم باجتهاده، مجتهداً آخر يرى خلاف ماظهر له هو، للإجماع على أن المجتهد إذا ظهر له الحكم باجتهاده لايجوز له أن يقلد غيره المخالف لرأيه) (أضواء البيان) 7/ 488.
2 ــ إذا كان قادراً على الاتباع (أي السؤال عن دليل مسألته وفهمه) فاكتفى بالتقليد المحض. كما قال الشنقيطي رحمه الله (أما القادر على التعلم المفرّط فيه، والمقدّم آراء الرجال على ماعلم من الوحي، فهذا الذي ليس بمعذور) (أضواء البيان) 7/ 554 ــ 555. وإنما أثِمَ هذا لأنه ترك الاتباع الواجب عليه، وفعله هذا نوع من أنواع الإعراض عما أنزل الله تعالى، وقد ذكر ابن القيم من أنواع التقليد المحرّم (الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء) (اعلام الموقعين) 2/ 168. وقال ابن تيمية رحمه الله (فكل من عَدَل عن اتباع الكتاب والسنة وطاعة الله والرسول إلى عادته وعادة أبيه وقومه فهو من أهل الجاهلية المستحقين للوعيد) (مجموع الفتاوي) 20/ 225.
¥