إلا أن الشنقيطي رحمه الله بيَّن بعد ذلك المراد بالتقليد الجائز في كلامه السابق، وهو ماكان محلاً للاجتهاد من المسائل، أما مافيه نص كتاب أو سنة أو إجماع فلا تقليد فيه، فقال رحمه الله (اعلم أن مما لابد منه معرفة الفرق بين الاتباع والتقليد، وأن محل الاتباع لايجوز التقليد فيه بحال.
وإيضاح ذلك: أن كل حكم ظهر دليله من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين، لايجوز فيه التقليد بحال. لأن كل اجتهاد يخالف النص، فهو اجتهاد باطل، ولاتقليد إلا في محل الاجتهاد. لأن نصوص الكتاب والسنة، حاكمة على كل المجتهدين، فليس لأحد منهم مخالفتها كائنا من كان.
ولا يجوز التقليد فيما يخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً إذ لا أسوة في غير الحق.
فليس فيما دلت عليه النصوص إلا الاتباع فقط. ولااجتهاد، ولاتقليد فيما دل عليه نص، من كتاب أو سنة، سالم من المعارض.
والفرق بين التقليد والاتباع أمر معروف عند أهل العلم، لايكاد ينازع في صحة معناه أحد من أهل العلم. وقد قدمنا كلام ابن خويز منداد الذي نقله عنه ابن عبدالبر في جامعه. وهو قوله: التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه، وذلك ممنوع منه في الشريعة، والاتباع ما ثبت عليه حجة. ــ إلى أن قال الشنقيطي ــ
وبهذا تعلم أن شروط المجتهد التي يشترطها الأصوليون إنما تشترط في الاجتهاد، وموضع الاتباع ليس محل اجتهاد، فجَعْل شروط المجتهد في المتبع مع تباين الاجتهاد والاتباع وتباين مواضعهما خلط وخبط، كما ترى.
والتحقيق أن اتباع الوحي لايشترط فيه إلا علمه بما يعمل به من ذلك الوحي الذي يتبعه. وأنه يصح علم حديث والعمل به، وعلم آية والعمل بها. ولايتوقف ذلك على تحصيل جميع شروط الاجتهاد. فيلزم المكلف أن يتعلم مايحتاج إليه من الكتاب والسنة، ويعمل بكل ماعلم من ذلك، كما كان عليه أول هذه الأمة، من القرون المشهود لها بالخير.) (أضواء البيان) 7/ 547 ــ 550.
ورغم كلامه هذا، فقد أجاز الشنقيطي التقليد بالمعنى الاصطلاحي الذي قدمناه وذلك في حال الضرورة، فقال رحمه الله (لاخلاف بين أهل العلم، في أن الضرورة لها أحوال خاصة تستوجب أحكاماً غير أحكام الاختيار. فكل مسلم ألجأته الضرورة إلى شيء إلجاء صحيحاً حقيقياً، فهو في سعة من أمره فيه. وقد استثنى الله جل وعلا، حالة الاضطرار في خمس آيات من كتابه، ذكر فيها المحرمات الأربع التي هى من أغلظ المحرمات، تحريماً وهى الميتة والدم ولحم الخنزير وماأهلّ لغير الله به. فإن الله تعالى كلما ذكر تحريمها استثنى منها حالة الضرورة، فأخرجها من حكم التحريم. ــ ثم ذكر الآيات، وقال ــ
وبهذا تعلم أن المضطر للتقليد الأعمى اضطراراً حقيقياً، بحيث يكون لاقدرة له البتة على غيره مع عدم التفريط لكونه لاقدرة له أصلا على الفهم.
أو له قدرة على الفهم وقد عاقته عوائق قاهرة عن التعلم.
أو هو في أثناء التعلم ولكنه يتعلم تدريجاً لأنه لايقدر على تعلم كل مايحتاجه في وقت واحد.
أو لم يجد كفئا يتعلم منه ونحو ذلك فهو معذور في التقليد المذكور للضرورة. لأنه لا مندوحة له عنه.
أما القادر على التعلم المفرط فيه. والمقدم آراء الرجال على ماعلم من الوحي، فهذا الذي ليس بمعذور) (أضواء البيان) 7/ 553 ــ 555.
5 ــ رأي المؤلف (عبدالقادر بن عبدالعزيز) في مسألة الاتباع والتقليد:
رأيي في هذه المسألة أن الاتباع واجب على كل مسلم ولايجوز التقليد إلا للضرورة كما قال ابن القيم والشنقيطي وغيرهما، وهذا الرأي مبني على مقدمتين:
المقدمة الأولى: أن الاتباع واجب على كل مسلم، ودليله ماذكرناه في أول الباب الثاني من (وجوب العلم قبل القول والعمل) وذكرنا أدلة ذلك من الكتاب والسنة والإجماع، ومنها قوله تعالى (ولاتقف ماليس لك به علم) الإسراء، وقوله صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة علي كل مسلم). فهذا خطاب لجميع المؤمنين لافرق بين عالم وعامي، فالكل مخاطب بألا يتبع ماليس له به علم، والكل مخاطب بطلب علم ماوجب عليه، وهو فرض العين من العلم. والعلم هو الدليل الشرعي كما ذكرنا، فمعرفة دليل القول والعمل واجب على كل مسلم، وهذا هو الاتباع.
¥