ولما أمر الله تعالى ذلك في هذه الآية أحال عليه في موضع آخر من كتابه فقال تعالى ? فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ? فأجمل موضع الإتيان من المرأة هنا وأحاله على أمره سبحانه في الآية المذكورة بعدها.
ولما كان إتيان المرأة من موضع الحرث هو الازدراع، أمر الله في آية أخرى طلب ما كتب الله تعالى من العشرة الزوجية فقال سبحانه وتعالى ? فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ?.
بهذا جاء التفسير لهذه الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء المعتبرين. فروى أحمد وأبو داود والطبراني في الكبير وغيرهم من طرق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال: قلت يا رسول الله: نساؤنا ما نأتي وما نذر؟ قال: " حرثك ائت حرثك أني شئت" (1).
فهذا الحديث على لفظ الآية الكريمة، فيدل على تحريم إتيان المرأة في غير موضع الحرث كما سيأتي تقريره عن العلماء. وسيأتي مزيد إيضاح للتفسير النبوي في الوجه الثاني إن شاء الله تعالى. وأما الآثار عن الصحابة والتابعين فكثيرة منها:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الحرث موضع الولد، وهو صحيح عنه على شرط مسلم كما قال الشيخ مقبل الوادعي في تحقيق تفسير ابن كثير (1/ 480) وبنحوه قال مجاهد وغير واحد.
وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في قوله تعالى ? نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ? قال: قائما وقاعدا وباركا بعد أن يكون في المأتي. رواه النسائي في تفسيره وهذا لفظه، ومسلم والبيهقي (النسائي رقم (59) ومسلم (1435) والبيهقي (7/ 195).). وقال الحسن البصري كما في الدر المنثور (1/ 628): لا بأس أن يغشى الرجل المرأة كيف شاء إذا أتاها في الفرج اهـ.
وأما التفسير عن العلماء المشهورين من أئمة العلم والتفسير فأكثر من أن يحصى، ومن ذلك ما يلي:
* - قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيره "أضواء البيان" (1/ 22) قوله ? حَرْثَكُمْ ? يعين محل الإتيان، وأنه هو محل حرث الأولاد وهو القبل دون الدبر، فاتضح أن محل الإتيان المأمور به المحال عليه هو محل بذر الأولاد ومعلوم أنه القبل اهـ.
وقال أيضا فيه (1/ 124) قوله ? حَرْثَكُمْ? يبين أن الإتيان المأمور به إنما هو في محل الحرث يعني بذر الولد بالنطفة وذلك هو القبل دون الدبر كما لا يحفى، لأن الدبر ليس محل بذر للأولاد كما هو ضروري اهـ.
وقال القرطبي رحمه الله في تفسيره (3/ 93): وحرث تشبيه، لأنهن مزدرع الذرية، فلفظ (الحرث) يعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة إذ هو المزدرع اهـ وكذلك قال ابن عطية في تفسيره (2/ 255).
وزاد الشوكاني رحمه الله توضيحا لهذا التشبيه فقال في فتح القدير (1/ 396): لفظ (الحرث) يفيد أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج الذي هو القبل خاصة، إذ هو مزدرع الذرية، كما أن الحرث مزدرع النبات، فقد شبه ما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها الغسل بما يلقى في الأرض من البذور التي منها النبات بجامع أن كل واحد منهما مادة لما يحصل منه، وهذه الجملة بيان للجملة الأولى أعني قوله ? مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ ? اهـ.
وقال صديق خان رحمه الله في تفسيره فتح البيان (1/ 449) في قوله ? مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ ?: أي فجامعوهن، والمراد أنهم يجامعونهن في المأتي الذي أباحه الله وهو القبل اهـ
وقال أيضا في قوله ? فَأْتُوا حَرْثَكُمْ?: أي محل زرعكم واستنباتكم الولد وهو القبل، وهذا على سبيل التشبيه، فجعل فرج المرأة كالأرض والنطفة كالبذر والولد كالزرع اهـ.
وهذا الاستدلال هو الذي نقله القرطبي رحمه الله في تفسيره عن الإمام مالك رحمه الله فقال (3/ 94 - 95): وقال مالك لابن وهب وعلي بن زياد لما أخبراه أن ناسا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك - أي الدبر - فنفر من ذلك وبادر إلى تكذيب الناقل فقال: كذبوا علي، كذبوا علي، كذبوا علي، ثم قال ألستم قوما عربا؟ ألم يقل الله تعالى ? نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ? وهل يكون الحرث إلا في موضع النبت اهـ.
فانظر رحمك الله كيف استدل مالك بلفظ (الحرث) على تحريم الدبر لأنه ليس موضع حرث، أفترى فم المرأة موضع حرث للذرية؟!
¥