على أية حال فقد تصدى لهذه الفرية التي ألصقت بالبحار أحمد بن ماجد، مؤرخ أصيل، وناقد بصير، لم تشغله أعباء السياسة والحكم عن أداء واجبه العلمي، ألا وهو سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم إمارة الشارقة، حيث قام بمناقشة هذه التهمة نقاشاً علمياً هادئاً، التزم فيه الموضوعية والإنصاف والأدب الجم- وهي بضاعة عزيزة في هذه الأيام - بعد ذلك نشر هذا الجهد العلمي في رسالة لطيفة أسماها (بيان للمؤرخين الأماجد في براءة ابن ماجد)، وقد بين في مقدمتها السبب الذي دفعه إلى بحث هذه القضية فقال: (في العام الدراسي المنصرم 1999 - 2000م، وبينما كنت ألقي محاضراتي كأستاذ لتاريخ الخليج العربي الحديث في جامعة الشارقة، ذكرت أن الذي أوصل "فاسكو داجاما" من الساحل الشرقي الأفريقي إلى الهند، هو غجراتي من الهند، وليس البحار العربي أحمد بن ماجد.
قيل لي بعدها: إن بعضاً من أساتذة التاريخ يرفضون ذلك المنطق، ويتشبثون برأيهم بأن أحمد بن ماجد هو الذي أوصل "فاسكو داجاما" إلى الهند.
كما علمت أن منهج وزارة التربية والتعليم في المدارس الحكومية في دولة الإمارات العربية المتحدة يتضمن تلك الفكرة الخاطئة، أن أحمد بن ماجد هو الذي أوصل البرتغاليين إلى الهند؛ وهنا قررت أن أصحح تلك المغالطة بالإثباتات العلمية الموثقة).
هذا وقد ناقش الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، هذه القضية عبر ثلاثة محاور:
الأول: قام فيه باستقراء كتابات المؤرخين البرتغاليين في القرن السادس عشر الميلادي الذين عاصروا (فاسكو داجاما) فلم يجد أي ذكر أو أي اتهام للبحار ابن ماجد في إرشاد (فاسكو داجاما)، بل وجد أولئك المؤرخين يشيرون إلى أن الذي أرشد (فاسكو داجاما) شخص غجراتي من الهند اسمه (كانا) أو (كاناكا).
وفي ذلك يقول: (إن جميع المؤرخين البرتغاليين في القرن السادس عشر قد أجمعوا أن "فاسكو داجاما" قد استفاد من مساعدة مرشد غجراتي عندما أبحر من شرق أفريقيا إلى الهند عام 1498م، وهي المرحلة الأخيرة من رحلته المشهورة من البرتغال إلى الهند، والتي دلت القوى الأوروبية للدخول مباشرة إلى المحيط الهندي والخليج العربي).
المحور الثاني: قام فيه باستعراض جذور هذه التهمة من خلال عرضه لجهود أحد المؤرخين المعاصرين في هذا الباب فقال: (لم يقتنع كثير من المؤرخين العرب بتلك الحقائق السالفة الذكر، وأصروا على اتهام أحمد بن ماجد بإيصال البرتغاليين إلى الهند ... ] وقد [تصدى لهم الأستاذ الدكتور إبراهيم خوري في كتابه "أحمد بن ماجد" ودحض كل تلك الاتهامات).
هذا وقد توصل الدكتور إبراهيم خوري، إلى أن أول من ذكر اتهام أحمد بن ماجد بإرشاد (فاسكو داجاما) هو المؤرخ (قطب الدين النهروالي) المتوفى سنة (988هـ) في كتابه (البرق اليماني في الفتح العثماني) وفيما يلي نص تلك التهمة كما وردت عند المؤرخ النهروالي: (فلا زالوا يتوصلون إلى معرفة هذا البحر، إلى أن دلهم شخص ماهر من أهل البحر، يقال له أحمد بن ماجد، صاحَبه كبير الفرنج، وكان يقال له الملندي [يقصد فاسكو داجاما] وعاشره في السّكر، فعلمه الطريق في حال سكره، وقال لهم: لا تقربوا الساحل من ذلك المكان، وتوغلوا في البحر ثم عودوا، فلا تنالكم الأمواج).
بعد ذلك ذكر الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، أهم المآخذ التي أوردها الدكتور إبراهيم خوري، حول كلام المؤرخ النهروالي، ومن ذلك ما يلي:
1 - أن وثيقة النهروالي قد كتبت بعد مرور ثمانين عاماً تقريباً من وصول البرتغاليين إلى الهند.
2 - أن وثيقة النهروالي تتعارض مع ثناء أمير البحر العثماني علي بن الحسين الملقب (بعلي شلبي) على البحار أحمد بن ماجد، ولا يتهمه بإرشاد الفرنج. وقد كان الأميرال علي شلبي هو قائد الحملة العثمانية ضد البرتغاليين في خليج عمان، وهو الذي أمر بترجمة كتاب (المحيط) لأحمد بن ماجد، وقد كان ذلك قبل تأليف النهروالي كتابه (البرق اليماني) بربع قرن.
¥