تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الأحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا عَادَانِي أَحَدٌ قَطُّ إلا أَخَذْت فِي أَمْرِهِ بِإِحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ:

إنْ كَانَ أَعْلَى مِنِّي عَرَفْت لَهُ قَدْرَهُ، وَإِنْ كَانَ دُونِي رَفَعْت قَدْرِي عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ نَظِيرِي تَفَضَّلْت عَلَيْهِ. فَأَخَذَهُ الْخَلِيلُ، فَنَظَمَهُ شِعْرًا فَقَالَ:

سَأُلْزِمُ نَفْسِي الصَّفْحَ عَنْ كُلِّ مُذْنِبٍ * وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْهُ إلَيَّ الْجَرَائِمُ

فَمَا النَّاسُ إلا وَاحِدٌ مِنْ ثَلاَثَةٍ * شَرِيفٌ وَمَشْرُوفٌ وَمِثْلٌ مُقَاوِمُ

فَأَمَّا الَّذِي فَوْقِي فَأَعْرِفُ قَدْرَهُ * وَأَتْبَعُ فِيهِ الْحَقَّ وَالْحَقُّ لاَزِمُ

وَأَمَّا الَّذِي دُونِي فَأَحْلُمُ دَائِبًا * أَصُونُ بِهِ عِرْضِي وَإِنْ لاَمَ لاَئِمُ

وَأَمَّا الَّذِي مِثْلِي فَإِنْ زَلَّ أَوْ هَفَا * تَفَضَّلْت إنَّ الْفَضْلَ بِالْفَخْرِ حَاكِمُ.

ص405:

وَأَنْشَدَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

وَلاَ خَيْرَ فِي حِلْمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ * بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا

وَلاَ خَيْرَ فِي جَهْلٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ * حَلِيمٌ إذَا مَا أَوْرَدَ الأمْرَ أَصْدَرَا

فَلَمْ يُنْكِرْ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ عَلَيْهِ. وَمَنْ فَقَدَ الْغَضَبَ فِي الأشْيَاءِ الْمُغْضِبَةِ حَتَّى اسْتَوَتْ حَالَتَاهُ قَبْلَ الإغْضَابِ وَبَعْدَهُ، فَقَدْ عَدِمَ مِنْ فَضَائِلِ النَّفْسِ: الشَّجَاعَةَ، وَالأنَفَةَ، وَالْحَمِيَّةَ، وَالْغَيْرَةَ، وَالدِّفَاعَ، وَالأخْذَ بِالثَّأْرِ؛ لِأَنَّهَا خِصَالٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْغَضَبِ. فَإِذَا عَدِمَهَا الإنْسَانُ هَانَ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ لِبَاقِي فَضَائِلِهِ فِي النُّفُوسِ مَوْضِعٌ، وَلاَ لِوُفُورِ حِلْمِهِ فِي الْقُلُوبِ مَوْقِعٌ.

ص408:

وَسَبَبُ الْغَضَبِ هُجُومُ مَا تَكْرَهُهُ النَّفْسُ مِمَّنْ دُونَهَا، وَسَبَبُ الْحُزْنِ هُجُومُ مَا تَكْرَهُهُ النَّفْسُ مِمَّنْ فَوْقَهَا.

وَالْغَضَبُ يَتَحَرَّكُ مِنْ دَاخِلِ الْجَسَدِ إلَى خَارِجِهِ، وَالْحُزْنُ يَتَحَرَّك مِنْ خَارِجِ الْجَسَدِ إلَى دَاخِلِهِ.

فَلِذَلِكَ قَتَلَ الْحُزْنُ وَلَمْ يَقْتُلْ الْغَضَبُ لِبُرُوزِ الْغَضَبِ وَكُمُونِ الْحُزْنِ. وَصَارَ الْحَادِثُ عَنْ الْغَضَبِ السَّطْوَةَ

وَالانْتِقَامَ لِبُرُوزِهِ، وَالْحَادِثُ عَنْ الْحُزْنِ الْمَرَضَ وَالأسْقَامَ لِكُمُونِهِ. وَلِذَلِكَ أَفْضَى الْحُزْنُ إلَى الْمَوْتِ وَلَمْ يُفِضْ

إلَيْهِ الْغَضَبُ. فَهَذَا فَرْقٌ مَا بَيْنَ الْحُزْنِ وَالْغَضَبِ.

ص425:

لَيْسَ فِي خِصَالِ الشَّرِّ أَعْدَلُ مِنْ الْحَسَدِ، يَقْتُلُ الْحَاسِدَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمَحْسُودِ.

ص426:

وَرُبَّمَا غَلِطَ قَوْمٌ فَظَنُّوا أَنَّ الْمُنَافَسَةَ فِي الْخَيْرِ هِيَ الْحَسَدُ، وَلَيْسَ الأمْرُ عَلَى مَا ظَنُّوا؛ لِأَنَّ الْمُنَافَسَةَ طَلَبُ التَّشَبُّهِ بِالأفَاضِلِ مِنْ غَيْرِ إدْخَالِ ضَرَرٍ عَلَيْهِمْ. وَالْحَسَدُ مَصْرُوفٌ إلَى الضَّرَرِ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَعْدَمَ الأفَاضِلُ فَضْلَهُمْ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ الْفَضْلُ لَهُ، فَهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُنَافَسَةِ وَالْحَسَدِ. فَالْمُنَافَسَةُ إذًا فَضِيلَةٌ؛ لِأَنَّهَا دَاعِيَةٌ إلَى اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ وَالاقْتِدَاءِ بِأَخْيَارِ الأفَاضِلِ.

ص442:

وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: عَلَى عَقْلِ الرَّجُلِ بِقَوْلِهِ، وَعَلَى أَصْلِهِ بِفِعْلِهِ.

ص445:

وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: لاَ يَكُونُ الْبَلِيغُ بَلِيغًا حَتَّى يَكُونَ مَعْنَى كَلاَمُهُ أَسْبَقَ إلَى فَهْمِك مِنْ لَفْظِهِ إلَى سَمْعِك.

وَأَمَّا مُعَاطَاةُ الإعْرَابِ وَتَجَنُّبُ اللَّحَنِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الصَّوَابِ وَالْبَلاَغَةُ أَعْلَى مِنْهُ رُتْبَةً، وَأَشْرَفُ مَنْزِلَةً.

وَلَيْسَ لِمَنْ لَحَنَ فِي كَلاَمِهِ مُدْخَلٌ فِي الأدَبَاءِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي عِدَادِ الْبُلَغَاءُ.

ص445:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير