ثانياً: أن يعلم أن الإنسان مدني بطبعه فهو لا ينعزل عن الخلق وهؤلاء البشر قد خلق الله فيهم تصورات وإرادات ونزعات وشهوات وغير ذلك وهي بلا شك تنعكس على المرء مهما كان حتى لو كان نبياً او صالحاً وهؤلاء منهم الموافق ومنهم المخالف وربما يقع للمرء الفتنة والابتلاء والأذى من الطائفتين، وكل هذا راجع في الأصل لأمر الله الكوني القدري حتى وإن تعبد الله المكلف بما يحصل منه تجاه هذه الأمور ولذلك يحصل مثل هذا النزاع والخلاف والفتنة والابتلاء والمصائب بين أي طائفتين مختلفتين في العقائد والديانات أو المذاهب وهو سنة الله الكونية في الخلق ولذلك يقول تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}
ثالثاً: يقع الجهل من كثير من الخلق من جهة أنهم يظنون أنفسهم قاموا بحقوق الله من فعل الواجبات وترك المحرمات ظاهراً وباطناً وهم في الواقع ليسوا كذلك فحق الله أعظم مما يظنه هؤلاء، وتقصير العباد بهذه الحقوق كثير ولكن المرء يغفل ويعجب بعمله وإلا فما يدريه عن قبول أعماله؟ وما يدريه أنه قام بما أوجب الله عليه من أعمال القلوب كالخوف والرجاء والمحبة والتوكل ونحوها وأعمال الجوارج من صلاة وزكاة وصوم وحج فضلاً عن الواجبات الموكولة لتقوى العبد كبر الوالدين وصلة الأرحام وحقوق الجار وحقوق المسلمين عليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك فضلاً عن أداء شكر النعم العظيمة على العبد من الهداية للإسلام ونعمة الصحة في البدن ونعمة الأمن ونعمة المأكل والمشرب والمسكن والمنكح وغير ذلك من النعم التي قال الله عز وجل عنها: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}، وما يدريه عن معاصيه السابقة هل قبلت توبته فيها وكفرت عنه سيئاته أولا هذا في حال توبته فما بالك في حال نسيانه لها.
والمقصود أن المرء دائماً يخاف من مغبة أعماله ولذا يقول الله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول في خطبته " ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا " والمقصود من هذا الحديث على أحد التفسيرين: ما يترتب على معاصيه من عقوبة معنوية أو حسية دنيوية وأخروية، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: " اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت وشر ما لم أعمل ".
يروى أن رجلاً من بني إسرائيل قال: يارب ما أكثر ما أعصيك ولا تعاقبني فأوحى الله لنبي ذلك الزمان أن قل لذلك العبد: ما أكثر ما أعاقبك ولا تشعر، فالعقوبات أحياناً تكون حسية وأحياناً تكون معنوية كأن يحجب الله عنه التوبة فيصر على الأعمال السيئة طول عمره أو يحرمه من الأعمال الصالحة فلا يتمكن من فعلها أو يقسي قلبه ويختم عليه أو غير ذلك من العقوبات.
رابعاً: في جميع الحالات سواء قيل ما حصل عقوبة أو ابتلاء فما يحدث للمؤمن لا يخلو من حالين:
- أن يكون خيراً ونعمة وأمراً محبوباً.
- أو يكون شراً ومصيبة ونقمة وأمراً مكروهاً.
فالأول واجبه الشكر لله وكثرة ذكره واستعمال هذه النعمة في طاعته سبحانه، والثاني واجبه الصبر والتوبة والإنابة والاستغفار والصدقة ومحاسبة النفس.
إذا علم ما سبق أقول العقوبة والابتلاء يفترقان في أمور:
1 - أن العقوبة تتعلق بكل المكلفين من مؤمن وكافر فقد يعاقب الكفار كما حصل للأمم السابقة وكما يحصل في أمم الكفر في كل زمان ومكان ممن طغوا وتجبروا وعصوا، وقد يقع العقاب على المسلمين أفراداً وجماعات، وأما الابتلاء فلا يقع إلا على المؤمن.
2 - أن العقوبة غالباً تكون في حق من أسرف على نفسه بالذنوب فهي تحصل نتيجة ما يفعله المكلف ولذا:
-يقول الله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}.
- ويقول تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}.
- ويقول تعالى: {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور}.
- و يقول تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}.
- ويقول تعالى: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا}
¥