إنه (القدرة على إنشاء الأصابع وخلقها).
وهذا هو المعنى اللغوي للفظة، وهو معنى وحيد ولا احتمالات له كما هو واضح ٌ.
الآن اختلف المفسّرون في قضيّة أخرى خارجة عن المدلول اللغوي لهذه اللفظة، وهو الإجابة عن السؤال التالي: ما وجه القدرة على خلق البنان؟ أو ما حقيقة القدرة على خلق البنان؟
خلاصة قول إمام المفسّرين ابن عباس رضي الله عنهما: ((لو شاء لجعله خفّاً أو حافراً))، أي: فلن يستطيع أن يقبض يده ويرسلها ويتناول الأشياء.
وما نلحظه من التفسير السابق الذي توالى عليه المفسّرون بعد ذلك، أنه أعظم ما هو مدرك من وجوه القدرة ذلك الزمان.
في العصر الحاضر، أدرك الناس وجهاً آخر أكثر قدرة، وهو اختلاف بصمات الناس والقدرة على تشكيلها.
وعليه: فليس ثمّة خلافٌ على مدلول اللفظة اللغوي، إنما كان الحديث عن أمرٍ خارجٍ عن مدلولها وهو الحديث عن حقيقة القدرة في خلق البنان ((الأصابع))
أما القياس على فساد هذا التفسير، بفساد من يستدلّون على الأوراد المبتدعة بقوله تعالى: ((اذكروا الله ذكرا كثيرا))
فهذا أمرٌ مختلف، لتقييد العمل بدلالات النصوص من خلال أمرٍ خارجيّ، يقتضي الالتزام بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وعدم الابتداع
وأما القياس على فساد هذا التفسير بمن استدلّ على تسونامي كونه عقوبة بقوله تعالى: ((وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم)))
ففساده متعلّقٌ بوجود أسباب أخرى غير العقاب لحلول الكوارث، منها الابتلاء وتكفير الذنوب.
هذا، وقد سحب الشيخ على ذلك أمراً آخر، وهو القول بضرورة أن يفهم المخاطبون في عهد النبوّة تماما معاني الآيات التي خوطبوا فيها، وجعل من ذلك مطعناً في القول بإعجاز الآيات التي تذكر علم الأجنّة أو تطوّر الخلق في الأرحام والبرزخ بين البحرين، وبرّر ذلك بأنهم إن لم يفهموا تمام المعنى فكيف تقوم الحجّة عليهم بتلك الآيات.
ويمكن أن يُجاب عن ذلك: أن فهم الدلالة اللغوية للفظ شيء، وفهم حقيقته شيءٌ آخر، وورد مثال ذلك قريبا (مثال البنان) ولا تلازم بينهما، هذا أولا.
وثانيا: الآيات التي تُخاطب الكفّار يدخل بها كفُار قريش دخولا أوليّا، كلنّها لا تقتصر عليهم، وإنما الآيات والدلائل حجّة عليهم وعلى من بعدهم، وإنما تكون الحجّة على القدر الذي فهموه من دلالات النصّ.
اعتراض الشيخ على مسمّى الإعجاز العلمي:
اجعل الشيخ حفظه الله تلازما بين الإعجاز والتحدّي، ولذلك أخرج من مسمّى (الإعجاز) الغيبيات والإخبار بالمكتشفات (الإعجاز العلمي)، وهذا التلازم المذكور موجود فقط عند أهل الكلام، وليس عند أهل السنّة.
وعلى الرغم من ذلك، فالـ (إعجازيّون) يجعلون من (الإعجاز العلمي) من الدلالات الناجزة، ووجه إعجازه: أن وصول النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى تلك الحقيقة العلميّة من غير أدوات معرفيّة لم يكن متاحاً في وقت نزول تلك الآيات، فهو إعجازٌ ناجزٌ في ذلك الزمان، ساعد على اكتشاف (إعجازه) ما توصّل إليه العلم الحديث.
وعلى كل حال، لا مشاحّة في الاصطلاح كما قال الشيخ.
بقي لديّ بعض التعقيبات على مسائل منثورة في الكتاب.
* لم أسمع بمن أدخل الاجتهادات الفقهيّة في بحوث الإعجاز العلمي، وإن فعل ذلك أحدٌ فقد أخطأ (لظنّية الاجتهادات).
• أما قضايا الشمائل والطب والمذكورة في الأحاديث، فقد تكون إعجازاً من جهة أن من الأمور الطبية ما لا يمكن الوصول إليه (في ذلك الوقت) إلا بموروثٍ علمي قائم على الآلات الموصلة إليه، فهو مفتقرٌ إلى تلك الآلات، وعليه فلا يمكن الوصول إلى تلك الأوصاف أو الأحكام بالاجتهاد ولكن من خلال النصوص.
مثال ذلك: حديث الذباب.
* ما كل معجزة متحدى بها، وإلا نفينا الإعجاز عن نبع الماء من بين الأصابع.
* كأن الشيخ حفظه الله يلمّح إلى نسبية الحقائق الطبيعيّة (هذا ما فهمته منه في ص 304)، والعكس صحيح، حيث توجد حقائق علميّة مطلقة تٌعرف بالحس والتجربة، ويعرفها أهلها المختصّون بها، وتلاعب البعض بادعاء ما ليس حقيقة بكونه حقيقة، يمكن كشفه بسهولة عند المختصّين بتلك العلوم.
* ص 311 اعترض الشيخ حفظه الله على الإعجاز في وصف (المضغة)، بأن عامة المفسّرين على أن وجه التشبيه هو التصغير (على قدر المضغة)، والحقيقة أن معنى مضغ: لاكه بسنّه، فالممضوغ هو ما لاكته الأسنان، والمضغة في اللغة هو القطعة من اللحم، ووجه الشبه بين ذلك الجنين والمضغة: الوجه الأول: الصغر، وهذا مفهوم، ثانياً: شبه اللقمة التي تُمضغ، ويُستفاد هذا من أصل الإطلاق اللغوي، وهذا عٌرف بجلاء في العصور الحديثة.
وأما استفادة هذا المعنى فليس بدعا من القول، فها هو الإمام ابن العربي يقول في تفسيره: جزء متخثر من الدم يشبه اللغة التي مضغت (3\ 271).
* الاعتراض على الأعجاز في قوله تعالى: ((موج من فوقه موج))، فيقول الإمام البغوي: موجٌ متراكم (6\ 52)، والتراكم غير الترادف، وهو كما قال في ذات الموضع: ((ثم ابتدأ فقال: ظلمات بعضها فوق بعض، ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة البحر وبعضها فوق بعض، أي: ظلمة الموج على ظلمة البحر، وظلمة الموج فوق الموج، وظلمة السحاب على ظلمة الموج))
•الاعتراض على أطوار خلق الإنسان ص 312، والمخاطبين (بدلالة الآية) فهموا وجود أطوار لخلق الإنسان دون أن يدركوا حقيقة ذلك.
هذا ما تيسّرت كتابته، وأحب أن أسمع تعليقات الأخوة على البحث الذي كتبه الدكتور، واستدراكاتهم على كلامي، فالمسألة تباحث ورغبة في الوصول إلى الحق.
وأستغفرالله من كل خطأ وقعت فيه هنا، وأعوذ به أن أقصد به غير وجهه.
والعلم عن العليم الخبير.
¥