وقال ابن عبدالبر (قال أبو عبدالله بن خويز منداد البصري المالكي: التقليد معناه في الشرع: الرجوع إلى قول لاحجة لقائله عليه، وذلك ممنوع منه في الشريعة، والاتباع: ماثبت عليه حجة. وقال في موضع آخر من كتابه: كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مُقلده، والتقليد في دين الله غير صحيح. وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه. والاتباع في الدين مسوّغ والتقليد ممنوع) (جامع بيان العلم) 2/ 117. فالاتباع هو العمل بالدليل الشرعي، ويكون المفتي مخبراً بالدليل.
هذا، وقد اعترض البعض على هذا الحد، وقالوا إن التقليد المذموم سُمِّي اتباعا أيضا في كتاب الله، كما في قوله تعالى (ولاتتبعوا من دونه أولياء) الأعراف 3، وقوله تعالى (إذ تبرأ الذين اتُبعوا من الذين اتَبعوا ورأوا العذاب) البقرة 166. ولامشاحة في الاصطلاح طالما عُلم المعنى وعُرِف الفرق بين الاتباع والتقليد. قال ابن حزم (وقد استحى قوم من أهل التقليد من فعلهم فيه، وهم يقرّون ببطلان المعنى الذي يقع عليه هذا الإسم، فقالوا: لانقلّد بل نتبع. قال ابن حزم: ولم يتخلصوا بهذا التمويه من قبيح فعلهم، لأن المحرَّم إنما هو المعنى فليسموه بأي اسم شاءوا) (الإحكام) 6/ 60.
ثالثا: القائلون بوجوب التقليد
نعود فنذكِّر هنا مرة أخرى بأن الاستفتاء غير التقليد. وأنه لاخلاف بين العلماء في وجوب الاستفتاء على الجاهل حيث يجب، أما التقليد ففيه خلاف، وأن المستفتي قد يكون مُقلداً وقد يكون متبعاً، ولكن لما غلب التقليد على المستفتين فقد غلب اسم المقلِّد على المستفتي.
وسوف نذكر هنا أقوال من أوجبوا التقليد ثم نشير إلى أدلتهم مع الرد عليها.
1 ــ القائلون بوجوب التقليد
أي أنه يجب على العامي (الجاهل) قبول قول المفتي بغير حجة، وهؤلاء منهم من قال لايسأل عن الحجة، ومنهم من قال إن قول المفتي في حقه كالحجة والدليل الشرعي.
أ ــ قال الخطيب البغدادي رحمه الله (وأما الجواب عن تقليد العامي، فهو أن فرضه تقليد مَن هو مِن أهل الاجتهاد، وقال أبو علي الطبري: فرضه اتباع عالمه بشرط أن يكون عالمه مصيباً، كما يتبع عالمه بشرط أن لايكون مخالفا للنص. وقد قيل إن العامي يقلد أوثق المجتهدين في نفسه، ولايُكلف أكثر من ذلك لأنه لاسبيل له إلى معرفة الحق والوقوف على طريقه) (الفقيه والمتفقه) 2/ 65. ومانقله الخطيب عن أبي علي الطبري لايؤيد قوله بوجوب التقليد، بل حقيقة قول الطبري هو وجوب الاتباع، فإن العامي لايعلم أن عالمه مصيب غير مخالف للنص إلا إذا ذكر له الدليل، وهذا الاتباع.
ب ــ وقال الخطيب أيضا (ليس ينبغي للعامي أن يطالب المفتي بالحجة فيما أجابه به، ولا يقول لم ولا كيف؟. قال الله سبحانه وتعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) وفرق تبارك وتعالى بين العامة وبين أهل العلم فقال (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون). فإن أحب أن تسكن نفسه بسماع الحجة في ذلك سأل عنها في زمان آخر ومجلس ثان أو بعد قبول الفتوى من المفتي مجردة.) (الفقيه والمتفقه) 2/ 180.
وقد تابعه على هذا ــ في أن لاينبغي للعامي مطالبة المفتي بالدليل ــ كلاً من النووي (المجموع، 1/ 57) وابن حمدان (صفة الفتوى، صـ 84).
وزاد النووي (وقال السمعاني: لايُمنع من طلب الدليل وأنه يلزم المفتي أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعا به ولايلزمه إن لم يكن مقطوعا به لافتقاره إلى اجتهاد يقصر فهم العامي عنه) قال النووي (والصواب الأول).
جـ ــ وقال الآمدي رحمه الله (العامي ومن ليس له أهلية الاجتهاد، وإن كان مُحصلا لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، يلزمه اتباع قول المجتهدين والأخذ بفتواه، عند المحققين من الأصوليين) (الإحكام) 4/ 234.
د ــ وقال الشاطبي رحمه الله (فتاوى المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء، إذ كانوا لايستفيدون منها شيئاً، فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولايجوز ذلك لهم ألبتة، وقد قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) والمقلد غير عالم، فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق. فهم إذاً القائمون له مقام الشارع، وأقوالهم قائمة مقام الشارع.
¥