فإذا كانت اليمين تصان عن مباشرة النجاسة، وملاقاة الأماكن القذرة، تكريما لها وتشريفا، فلأن يصان الفم الذي هو أفضل وأشرف من اليمين، لأنه موضع الذكر من التسبيح والتهليل والتحميد وغيرها، وهو الذي جاء في الخبر الصحيح أنه ينبغي أن لا يزال رطبا من ذكر الله تعالى (صحيح الجامع الصغير (رقم 7700)، لأن يصان هذا اللسان من القاذورات والنجاسات والمستخبثات أولى من صيانة اليمين منها.
وهذا النوع من الدلالة متفق على حجيته، سواء قلنا إنه دلالة لفظية صريحة كما هو قول ابن حزم ومن سار على طريقته، أو قلنا إنه من باب مفهوم الموافقة، ومن أقوى نوعيه الذي هو الأولى كما هو قول أكثر الأصوليين، أو قلنا: إنه من باب القياس الجلي كما هو مذهب الشافعي وغيره، فهو حجة على كل الوجوه، فصح بذلك والحمد لله قوة هذا الوجه، ودلالته على التحريم على الرجل والمرأة، وهو كاف في تحريم هذه الفعلة لو لم يكن في ذلك غيره، فكيف وقد تضافرت الأدلة (*).
يؤيده: أن هذا النهي وهذا الخلاف الذي حكيناه عن العلماء، وجواز استعمال اليسرى للاستنجاء ونحوها إنما هو في حالة مباشرة هذه النجاسة بآلة، أما بدون آلة بل باليد فقط فحرام يستوي فيها اليمين واليسرى، وملابسة النجاسة محرم كما يأتي في الوجه الرابع إن شاء الله تعالى.
اعتراض مردود
فإن قيل: غاية ما في هذا الوجه هو تحريم مس الذكر، وليس فيه تحريم لحس الرجل فرج المرأة.
أجيب: بأنه لا فرق في صيانة الفم عن الأقذار وأولويته بذلك من اليمين بين الرجل والمرأة كما أنه لا فرق بينهما في تحريم مس الفرج باليمين عند البول، وكل ما يقال في فم الرجل وصيانته عن الأقذار و مواضع النجاسة يقال مثله في المرأة.
هوامش:
(1) حديث حسن
رواه أحمد (3/ 5) وأبو داود رقم (2144) والطبراني في الكبير (19/رقم999 - 1002) وغيرهم من طرق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده به.
وهذا سند حسن، وقد حسنه الألباني في إرواء الغليل (7/ 98) والشيخ مقبل الوادعي في تحقيق تفسير ابن كثير (1/ 480) على تشدده، وهو كذلك.
(2) صحيح
رواه أحمد (6/ 305، 310) والترمذي (رقم 2979) وغيرهما من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم عن عبد الله بن سابط عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق عن أم سلمة به.
وهذا سند صحيح على شرط مسلم كما قال الألباني رحمه الله تعالى في آداب الزفاف (102 - 103) وهو الصواب. وأما قول الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله تعالى في تحقيق تفسير ابن كثير (1/ 481) في حفصة: لم يوثقها غير ابن حبان والعجلي وهما متساهلان وتضعيفه السند بذلك، فسهو منه عن توثيق الإمام مسلم لحفصة باعتماده على حديثها وإيراد أحاديث لها في صحيحه، وقال الحافظ في التقريب عنها: ثقة، وهو الصواب. على أن الحديث يتقوى بما بعده من الأحاديث، ولهذا حسنه الشيخ مقبل الوادعي لغيره والله أعلم.
(3) صحيح
وهذا سند صحيح رجاله ثقات أئمة، ولم يتفرد به ابن المنكدر بل تابعه عليه الزهري في رواية النعمان بن راشد عنه بلفظ " إن شاء مجبية، وإن شاء غير مجبية غير أن ذلك في صمام واحد" رواه الإمام مسلم في صحيحه (رقم 1435/ 119). وهذا سند صحيح رجاله ثقات أئمة، ولم يتفرد به ابن المنكدر بل تابعه عليه الزهري في رواية النعمان بن راشد عنه بلفظ " إن شاء مجبية، وإن شاء غير مجبية غير أن ذلك في صمام واحد" رواه الإمام مسلم في صحيحه (رقم 1435/ 119).
(4) حسن وسنده ضعيف
وهذا سند ضعيف من أجل رشدين بن سعد وهو ضعيف، وبقية السند حسن.
لكنه -أي رشدين -لم يتفرد به بل تابعه عليه عبد الله بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عامر بن يحيى به. رواه الطبري في تفسيره (2/ 335) من طريق أبي صالح الحراني، وابن أبي حاتم (ابن كثير 1/ 247) من طريق عبد الله بن وهب، والطبراني في الكبير (12/ رقم 1298) من طريق عبد الله بن يوسف ثلاثتهم عن ابن لهيعة به.
وفي رواية الطبراني " ائتها مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك في الفرج ".
وهذا سند حسن، وهو من صحيح حديث ابن لهيعة، لما عرف من أن رواية ابن وهب وعبد الله بن يوسف عنه هي قبل احتراق كتبه. وعليه فالحديث حسن بهذا السند وهو صحيح بالطريق الثاني وشواهده.
(5) حديث حسن
رواه أحمد (6/ 287) والطبراني في الكبير (13/ 346، 347) وأبو يعلى في مسنده (رقم 7042، 7060) وابن حبان (رقم 5227) والحاكم (4/ 109) وعبد بن حميد (رقم 1545) والبيهقي في الشعب (رقم 2786) من طرق عن عاصم بن بهدلة عن المسيب بن رافع ومعبد بن حارث عن حارثة بن وهب الخزاعي عن حفصة به.
وهذا سند حسن، وصحح الحاكم إسناده، وقال الذهبي: في سنده مجهول، وقال الهيثمي في المجمع (5/ 26) وعزاه لأحمد: رجاله ثقات أهـ وحسنه الأرناؤط في تحقيق الإحسان، وما ذكره الذهبي من الجهالة لم يفصح عنها.
وللحديث شاهد من حديث عائشة بنحوه عند أحمد (6/ 126) وابن أبي شيبة (1/ 140و 5/ 224) من طريق الأعمش عن بعض أصحابه عن مسروق عن عائشة به. وهذا سند ضعيف للشخص المبهم، لكنه حسن في الشواهد وهو كذلك هنا. ورواه أبو داود (رقم 33) من طريق أبي معشر عن إبراهيم عن عائشة قالت: "كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى ".
تنبيه: وقع في سند الحاكم لهذا الحديث (حارثة بنت وهب الخزاعي) وهو خطأ مطبعي، صوابه ما تقدم.
(*) ممن ذكر تسمية هذا النوع من الدلالة أنها لفظية، وأنها تسمى قياسا جليا، وقياسا في معنى الأصل الحافظ ابن القيم كما في دقائق التفسير (2/ 169).
¥