فقال ابن أبي شيبة في مصنفه (في الجنب يعرق في الثوب).
وقال عبد الرزاق في مصنفه (باب الصلاة في الثوب الذي يجامع فيه ويعرق فيه الجنب).
وقال ابن المنذر في الأوسط (2/ 177) " ذكر عرق الجنب والحائض "
وقال الدارمي (باب في عرق الجنب والحائض)
وقال ابن خزيمة (باب الرخصة في غسل الثوب من عرق الجنب والدليل على أن عرق الجنب طاهر غير نجس).
وخلاصة القول: أن هذا الأثر من كلام عائشة وفتواها رضي الله عنها لا من الحديث المرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم الأثر أقرب إلى دلالته على النجاسة منه إلى الطهارة لما هو واضح في أكثر ألفاظ الأثر من اشتراط المسح والتنظيف.
أثر جابر بن سمرة في نجاسة هذه الرطوبة
وعلى كل حال فليس أثر عائشة هو الوحيد في الباب بل روى الطحاوي في المعاني (1/ 51) من طريق أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير قال: سئل جابر بن سمرة وأنا عنده عن الرجل يصلي في الثوب الذي يجامع فيه أهله؟ قال: صل فيه إلا أن ترى فيه شيئا فتغسله ولا تنضحه، فإن النضح لا يزيده إلا شرا ".
الوجه السادس: القول بنجاسة المني يدل على التحريم
وهذا الوجه السادس كالذي قبله من باب الإلزام لمن يقول بنجاسة المني من الأحناف وغيرهم.
بيانه: أن بعض العلماء من الأحناف وغيرهم ذهبوا إلى نجاسة مني الرجل والمرأة، محتجين بحديث غسل عائشة رضي الله عنها المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان رطبا، وفركه منه إذا كان يابسا، وأن كلا منهما يصح به تطهير نجاستها بدلالة السنة.
والكلام على ذلك معروف في موضعه من كتاب الطهارة ليس هنا موضع تفصيله، وهي رواية عن أحمد واختيار غير واحد من المحققين كالشوكاني رحمه الله تعالى في نيل الأوطار والسيل الجرار وغيرهما من كتبه.
ومعلوم أن المباشرة بين الزوجين تسبب خروج المني منهما أو من أحدهما، فإذا قيل بنجاسة المني، وقد علم تحريم مباشرة النجاسة بالفم وأكلها كما سبق، لزم من ذلك تحريم اللحس والمص خشية مباشرة الفم بالنجاسة وهو واضح.
وهذا الوجه هو مرة إلزام لمن يتمذهب هذا المذهب ويتدين به أن يقول بالتحريم وتخريج لقول أصحاب أبي حنيفة ومن على مذهبهم في نجاسة مني الرجل والمرأة، وأنه يقتضي تحريم هذه الفعلة.
لا يقال: يعفى عن ذلك كما يعفى عن مباشرتها عند الجماع، لأن ذلك قياس مع الفارق من وجهين:
أولهما: أن قياس مباشرة الفم للفرج على مباشرة الفرج للفرج قياس مع الفارق، فلا يصح أبدا قياس الفم على الفرج في الشريعة بحال من الأحوال، ولا يصان الفرج من مباشرة الأقذار مثل ما يصان الفم.
أليس الفرج مخرج النجاسات التي يحؤم مسهاباليد بدون آلة كما تقدم؟ أليس الفرج مخرج البول والغائط، أترىه كالفم في الصيانة والذكر والطاعة، فما أفسد القياس بينهما.
ثانيهما: أن العفو عن ذلك إنما هو في محل الضرورة وهي قائمة في مباشرة الفرجين للتناسل وقضاء الشهوة، ولا ضرورة في الفم مطلقا، لأنه لا يتصف بشيء مما ذكر فافترقا.
إذا اشتبه الحلال بالحرام
قال ابن قدامة (1/ 82) فيمن اشتبه عليه نجس وطاهر ما نصه:
" إنما خص حالة السفر - أي صاحب المتن – بهذه المسألة لأنها الحالة التي يجوز التيمم فيها ويعدم فيها الماء غالبا، وأراد – يعني صاحب المتن – إذا لم يجد ماء غير الإناءين المشتبهين، فإنه متى وجد ماء طهورا غيرهما توضأ به، ولم يجز التحري بغير خلاف اهـ
وقال (1/ 83) في معرض الرد على من قال بالتحري عند عدم ماء آخر " ولنا أنه اشتبه المباح بالمحظور فيما لا تبيحه الضرورة فلم يجز التحري ".
والمقصود من هذا النقل التدليل على أن التحري والعفو إنما محله فيما لا بد للناس منه، ولم يمكنهم فعله إلا بارتكاب محرم، أما والحال غير ذلك فلا يجوز ذلك.
إذا تبين لك هذا علمت أن من ينتمي لمذهب أبي حنيفة يلزمه القول بالتحريم لما يترتب على ذلك من مباشرة النجاسة كما تقدم، فإن أفتى بالجواز فقد خالف مذهبه ومذهب إمامه الذي ينتمي إليه، فعليه بالدليل الناقل له عن ذلك، وقد علم أن من كان على مذهب إمام ويرى أنه حق وصواب لا يجوز له ترك ذلك المذهب إلا لدليل راجح وإلا كان متبعا للهوى، تاركا لما يراه حقا بدون دليل يقتضي تركه وهو على هذا الفعل مذموم.
¥