وما وجد في أمصار المسلمين مما لا يعرفه أهل الحجاز رد إلى أقرب ما يشبهه في الحجاز، فإن لم يشبهه شيء منها فهو مباح لدخوله في عموم قوله تعالى ? قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ?، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " وما سكت عنه فهو مما عفا عنه "اهـ المراد منه حديث حسن من حديث أبي الدرداء (غاية المرام رقم 2).
وبهذه الآية استدل ابن حزم رحمه الله على تحريم أكل العذرة وشرب البول ونحوها فقال في المحلى (7/ 398): أما العذرة والبول فلما ذكرنا في كتاب الصلاة من قول النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الصلاة وهو يدافع الأخبثين البول والغائط، ولقوله تعالى ? وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ ? فكل خبيث فهو محرم بالنص، ولا خبث إلا ما سماه الله تعالى ورسوله خبيثا اهـ.
ونقل ابن عابدين رحمه الله في حاشيته الإجماع فقال (6/ 305): قال في معراج الدراية: أجمع العلماء على أن المستخبثات حرام بالنص وهو قوله تعالى ? وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ? أهـ المراد منه.
وقال ابن تيمية (مجموع الفتاوى 11/ 609):أكل الخبائث وأكل الحيات والعقارب حرام بإجماع المسلمين اهـ.
وقال أيضا فيه (20/ 10): ولما كان الله سبحانه وتعالى إنما حرم الخبائث لما فيها من الفساد، إما في العقول أو الأخلاق أو غيرها: ظهر على الذين استحلوا بعض المحرمات من الأطعمة أو الأشربة من النقص بقدر ما فيها من المفسدة، ولولا التأويل لاستحقوا العقوبة اهـ.
وقال فيه أيضا (27/ 499): فمن أكل الخبائث كانت أحواله شيطانية، فإن الأحوال نتائج الأعمال، فالأكل من الطيبات والعمل الصالح يورث الأحوال الرحمانية من المكاشفات والتأثيرات التي يحبها الله ورسوله، وأكل الخبائث وعمل المنكرات يورث الأحوال الشيطانية التي يبغضها الله ورسوله اهـ.
وقال فيه أيضا (21/ 83): وباب الخبائث بالعكس، فإنه يرخص في استعمال ذلك فيما ينفصل عن بدن الإنسان ما لا يباح إذا كان متصلا به اهـ.
وقال النووي في المجموع (2/ 513 فرع): هل يجوز أكل المني الطاهر؟ فيه وجهان، الصحيح المشهور أنه لا يحل، لأنه مستخبث، قال تعالى
? وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ ?، والثاني: يجوز، وهو قول الشيخ أبي زيد المروزي لأنه طاهر لا ضرر فيه اهـ.
فانظر كيف احتج النووي بهذه الآية وصار هو المشهور عند السادة الشافعية، والشيخ المروزي لم ينكر أنه مستخبث، وإنما ادعى أنه طاهر لا ضرر فيه، وليس في الآية اشتراط الضرر في تحريم الخبائث ولا نجاستها، فهما وصفان لا يستلزمان الحل كما تقدم عن ابن تيمية والصنعاني، فدل ذلك على ضعف قول المروزي وقد ضعفه النووي.
قال في المجموع أيضا (9/ 34): الثانية: كل طاهر لا ضرر فيه فهو حلال إلا ثلاثة أنواع ... وأما الأنواع الثلاثة المستثناة فأحدها: المستقذرات كالمخاط والمني ونحوهما على الصحيح المشهور وفيه وجه ضعيف حكاه إمام الحرمين وغيره أنها حلال، وممن قال به في المني أبو زيد المروزي، وحكم العرق حكم المني والمخاط، وقد جزم الشيخ أبو حامد في تعليقه عقب كتاب السلم في مسألة بيع لبن الآدميات بأنه يحرم شرب العرق اهـ.
وقال النووي أيضا في روضة الطالبين (3/ 91): وكل طاهر لا ضرر فيه يحل أكله إلا المني والمخاط ونحوهما على الصحيح اهـ.
وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 83) وهو يتكلم على النزاع في طهارة بول ما يؤكل لحمه: وفيه عن أحمد روايتان منصوصتان فذاك لما فيها من القذارة الملحق لها بالمخاط والبصاق والمني ونحو ذلك من المستقذرات التي ليست بنجسة التي يشرع النظافة منها كما يشرع نتف الإبط وحلق العانة وتقليم الأظافر وإحفاء الشارب، ولهذا أيضا كان هذا الضرب محرما اهـ.
وقال الشاطبي في الموافقات (2/ 11) وأما التحسينيات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق، وهي جارية فيما جرت فيه الأوليان (يعني الضروريات والحاجيات) ... وفي العادات: كآداب الأكل والشرب، ومجانبة المآكل النجاسات والمشارب المستخبثات ... إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
¥