وذلك أن كثيرا من المعاصرين جرت عادتهم في إطلاق هذه التسمية على كثير من العلماء ممن عاشوا عصورا متأخرة عن العصور المفضلة الثلاثة، فلا تكاد تستطيع الجزم بمراد المتكلم منهم إلا بصريح عبارة منه أو بمعرفة عادته في هذا الزمان.
ثم قد مر بك ما يدل على التحريم من ثمانية أوجه معتبرة، ولست أحسب أنه يصح الاستدلال بغير البراءة الأصلية للجواز، وسيأتيك الجواب على ذلك في صلب الرسالة.
والجواب على هذا
أن الاحتجاج بالأصل على النحو المتقدم صحيح لو كان الأمر كما ذكروه من عدم الدليل المعتبر، ولكن الأمر على خلاف ما قالوا.
فقد تقدم في الوجوه الثمانية المتقدمة أن الكتاب والسنة وقياس الأولى قد دل كل واحد منها على تحريم هذه الفعلة، ودل النظر الصحيح على تحريم ذلك أيضا على ما تقدم بيانه في الوجوه المتقدمة.
و بناء على ذلك فلا يصح التمسك بهذا الأصل هنا، والاستدلال به متوقف على عدم وجود الدليل المخصص، وقد علمت مما تقدم أن الدليل قد قام على تحريم ذلك ورفع البراءة الأصلية، ولا يعتبر ذلك من باب التعارض بين الأدلة كما لا يعتبر نسخا وإنما رفعا للإباحة العقلية كما علم من مواضعه.
الكلام على البراءة الأصلية ومتى يصح الاستدلال بها
والعلماء مجمعون من حيث الجملة على أنه إذا ورد الدليل المعتبر شرعا على خلاف البراءة الأصلية فالواجب اتباع الدليل، ولا يجوز معارضته بمجرد مخالفته لهذه البراءة، إذ البراءة ليست دليلا لإثبات الحكم ولا لنفيه، وإنما هي نفي وجود ما يثبت حكما شرعيا فمتى ورد الدليل المعتبر فلا معنى لإيراد البراءة، ولهذا سميت بالبراءة العقلية وبالاستصحاب.
قال الشنقيطي في أضواء البيان (7/ 745): اعلم أن علماء الأصول يقولون: إن الإنسان لا يحرم عليه فعل شيء إلا بدليل من الشرع، ويقولون: إن الدليل على ذلك عقلي وهو البراءة الأصلية المعروفة بالإباحة العقلية وهي الاستصحاب حتى يرد دليل ناقل عنه اهـ المراد منه.
وقد علم يقينا أن العقل ليس له سلطان في إثبات الحكم الشرعي ولا في نفيه، وهو من أضعف الأدلة، ولا يصار إليه إلا في آخر المطاف حيث لا يوجد دليل.
الاستصحاب ضعيف، والقياس مقدم عليها عند الجماهير
قال ابن تيمية في الفتاوى (13/ 112): فالاستصحاب في كثير من المواضع من أضعف الأدلة اهـ.
وقال الشيخ الأمين الشنقيطي في نثر الورود (2/ 568): واستصحاب العدم هذا هو الإباحة العقلية المتقدمة، ولا يحتج به إلا بعد قصارى البحث أي غايته عن دليل فلم يوجد اهـ.
والتمسك بالبراءة الأصلية هذه مع ما تقدم من الوجوه الدالة على التحريم يشبه ما ذكره ابن القيم في الإعلام (1/ 339) في معرض رده على بعض الطوائف فقال: الخطأ الثالث: تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه، وجزمهم بموجبه لعدم علمهم بالناقل، وليس عدم العلم علما بالعدم اهـ.
وقال ابن تيمية في الفتاوى (29/ 166): إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي فقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك، فإن جميع ما أوجبه الله ورسوله وحرمه الله ورسوله مغير لهذا الاستصحاب، فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذلك اهـ.
إذا تقرر ذلك، وأن الاستصحاب ليس دليلا إلا عند الضرورة حين لا يوجد دليل، وأنه مع ذلك من أضعف الأدلة، وتقرر أيضا أنه قد يحمله البعض ما لا يحتمل، ثبت أنه لا يصح معارضته بما سبق من الوجوه الدالة على التحريم.
وقد تقدم لنا أنه لو لم يكن في الباب إلا الوجه الثالث من دلالة القياس على التحريم لكفى، ونزيد هنا أنه وحده أقوى من هذا الاستصحاب للبراءة الأصلية أو العدم الأصلي، فكيف وقد عضدته الوجوه الأخرى.
قال ابن تيمية في الفتاوى (6/ 447): ولو فرضنا أنه يجوز الحكم باستصحاب الحال في مثل هذا – مسألة كان في صدد الكلام عليها – فإن العموم والقياس حجتان مقدمتان على الاستصحاب، أما العموم فبإجماع الفقهاء، وأما القياس فعند جماهيرهم اهـ.
رفع الإباحة العقلية _ البراءة الأصلية – ليس نسخا
¥