فالشاهد مما تقدم، أن السلف لم يكونوا يلاحظون في صلاة الليل عددًا، بقدر ما كانوا يهتمون بالأوقات الفضيلة و الأحايين المشهودة، ليعمروها بالعبادة، و يظهر هذا جليًّا في أحاديث قيام رمضان؛
فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: " صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا من الشهر شيئًا، حتى إذا بقي سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا الليلة الرابعة وقام بنا التي تليها حتى ذهب نحو من شطر الليل، قلنا: يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه؟ قال: إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف حسبت له بقية ليلته. ثم لم يقم بنا السادسة وقام بنا السابعة، وبعث إلى أهله واجتمع الناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور".
رواه ابن الجارود في (المنتقى 403) و أبو داود (1375) و الترمذي (806) و صححه و النسائي (1364) و ابن ماجة (1327)،
و رواه ابن خزيمة (2205) وفيه أنه كان يقول في كل ليلة: " ما أحسب ما تطلبون إلا وراءكم " يريد ليلة القدر، قال: " ثم قمنا ليلة سبع وعشرين إلى الصبح ".
و في هذا من البيان؛ أنهم كانوا يصلون في تلك الليالي صلاة مفتوحة يطلبون بها ليلة القدر، ولم يكن غايتهم فيها عددًا ينتهون عنده. و أن صلاتهم في الليلة الثالثة كانت بلا شك أضعاف صلاتهم في الليلة الأولى، و هذا يشبه النصّ، خاصة إذا استحضرنا حديث أنس سالف الذكر، و تذكّرنا أنه في هذه الليلة انتدب إليه الناس للصلاة معه، و فيهم الضعفة و النساء.
و أنّ قوله: " إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف حسبت له بقية ليلته "، ليس دليلاً على عدم جواز الزيادة، بقدر ما هو إخبار عن فضل الله تعالى على عباده المؤمنين لمن أراد الإقتصاد، و يبقى فضله ممدودًا لمن أراد الإجتهاد. و لو كانت الصلاة مكروهة أو ممنوعة لنهاهم النبي صلى الله عليه و سلم و بيّن لهم ذلك. و قد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح أنه من صلى العشاء و الصبح جماعة كتب له قيام ليلة، و مع ذلك فلم يقل أحد من أهل الملة بعدم جواز الصلاة فيما بينهما.
و اعلم أن الأحاديث التي ذكرت صلاة التراويح مع رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يأت في شيء منها بيان عدد الركعات التي صلاها إلا ما رُوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ثمان ركعات وأوتر. فلما كانت القابلة اجتمعنا في المسجد ورجونا أن يخرج فلم نزل فيه حتى أصبحنا ثم دخلنا فقلنا:يا رسول الله اجتمعنا البارحة في المسجد ورجونا أن تصلي بنا. فقال: إني خشيت أن يكتب عليكم ".
رواه ابن خزيمة (1070) و ابن حبان (2409) بلفظ: " كرهت أن يكتب عليكم الوتر "، و السياق الأول للطبراني في " الأوسط " (525) وقال: لا يروى عن جابر بن عبد الله إلا بهذا الإسناد تفرد به يعقوب وهو ثقة.اهـ
قلت: لكن قال الدارقطني في (العلل 3/ 91): ليس بالقوي.اهـ فلا يقبل تفرده و لا يحتج به، و مع ذلك فالحديث ينفرد به أيضًا شيخه (عيسى بن جارية)، قال ابن معين: عنده مناكير، وقال النسائي: منكر الحديث، بل و قال عنه في رواية: متروك. وقال أبو زرعة: لا بأس به.اهـ من الميزان (5/ 374).
قلت: وقولهم في راوٍ " لا بأس به " لا يعني أنهم يصححون حديثه؛ قال ابن أبي حاتم: من قيل فيه ذلك هو ممن يكتب حديثه وينظر فيه وهي المنزلة الثانية. قال ابن الصلاح: وهو كما قال، لأن هذه العبارة لا تشعر بالضبط فيعتبر حديثه بموافقة الضابطين.اهـ من (تدريب الراوي 1/ 343)
و الخلاصة؛ أن الحديث إسناده ضعيف كما قال ابن نصر في (كتاب الوتر1/ 36). فلا حجة فيه.
و بالإسناد نفسه رُوي عن جابر رضي الله عنه قال: "جاء أبي بن كعب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن كان مني الليلة شيء يعني في رمضان، قال: وما ذاك يا أبي؟ قال: نسوة في داري قلن إنا لا نقرأ القرآن فنصلي بصلاتك، قال: فصليت بهن ثمان ركعات ثم أوترت. قال: فكان شبه الرضا ولم يقل شيئًا ". رواه أبو يعلى (1801) و غيره، و مداره كسابقه، على (يعقوب القمي) عن (عيسى بن جارية)، و قد تبيّن لك حالهما.
¥