فالإحدى عشرة ركعة التي كان يصليها النبي صلى الله عليه و سلم في الغالب من أحايينه لم تكن مقصودة لذاتها، و إنما لمّا كانت مناسبة لطول قيامه و الوقت الذي رتّبه للصلاة. و هذا العدد قد ينقص أو يزيد على حسب طول القراءة و قصرها، و سعة الوقت و ضيقه. كما حدث أنّ صلى ليلة كاملة بأربع ركعات، و صلى أخرى بركعة واحدة ... و لو أنه اختار تخفيف القراءة لزاد في عدد الركعات على ما كان معهودًا، كما صلى الضحى يوم الفتح ثماني ركعات مع التخفيف عوض ركعتين طويلتين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ومما يناسب هذا، أن الله تعالى لما فرض الصلوات الخمس بمكة، فرضها ركعتين ركعتين، ثم أقرت فى السفر وزيد فى صلاة الحضر، كما ثبت ذلك فى الصحيح عن عائشة رضى الله عنها، أنها قالت: " لما هاجر إلى المدينة زيد فى صلاة الحضر وجعلت صلاة المغرب ثلاثا لأنها وتر النهار وأما صلاة الفجر فأقرت ركعتين لأجل تطويل القراءة فيها فأغنى ذلك عن تكثير الركعات ".اهـ من مجموع الفتاوى (23/ 11)
و الدليل على أنه كان يختار لنفسه من التطويل ما لا يختار لأمته؛ ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: " أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوه ليلة في رمضان وصلى لهم فخفف ثم دخل فأطال الصلاة، ثم خرج فصلى بهم ثم دخل فأطال الصلاة، ففعل ذلك مرارًا، فلمّا أصبح قالوا: يا رسول الله أتيناك ففعلت كذا وكذا، فقال: من أجلكم فعلت ذلك ".
رواه أحمد في المسند (13236، 13087، و في مواطن أخرى) بسندين صحيحين كما قال الشيخ الألباني رحمه الله في " رسالته ص10 ".
و رواه مسلم في صحيحه (1104) بلفظ:" فلما حسّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّا خلفه، جعل يتجوز في الصلاة ثم دخل رحله فصلى صلاة لا يصليها عندنا ".
و في رواية: " فلما أصبح قالوا: يا رسول الله صلينا معك ونحن نحب أن تمد في صلاتك. قال: قد علمت بمكانكم وعمدًا فعلت ذلك ".
و هذا الأمركان مستقرًّا في أذهان الصحابة رضي الله عنهم؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه - في حديث يذكر فيه صلاة النبي صلى الله عليه و سلم بالليل - قال: " ... وصلى ركعتين وهو جالس يقرأ فيهن بالرحمن والواقعة، قال أنس: ونحن نقرأ بالسور القصار إذا زلزلت وقل يا أيها الكافرون ونحوهما " رواه ابن خزيمة في صحيحه (1079)
و المتأمل في رواية أحمد سالفة الذكر، يلاحظ التصريح بالصلاة مرتين بالناس في المسجد و مرتين في بيته، و يعني ذلك أنه صلى ثماني ركعات على أقل تقدير، ثم أخبر الراوي أنّ ذلك تكرر منه "مرارًا "، على صيغة الجمع، يعني ثلاث مرات كأقل الجمع، فيتحصل من ذلك؛ ثلاثة و عشرون ركعة إن كان النبي صلى الله عليه و سلم أوتر في آخر دخلة؛ منها إحدى عشرة ركعة صلاها في بيته. و أما الصحابة فصلوا بصلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم اثنتي عشرة ركعة ...
والحاصل أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يقصد عددًا بعينه، لا يجاوزه و لا ينقص عليه، و إنما كان ينظر إلى الوقت و الحال فيصلي بما يناسبهما، و لذلك، فإنه لم ينقل عنه أنه أمر بعدد معيّن في صلاة الليل إلا ما؛
رواه أبوهريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين "، أخرجه مسلم (768)
أو ما رواه ثوبان رضي الله عنه قال: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: إن هذا السفر جهد وثقل، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين فإن استيقظ وإلا كانتا له ".
رواه ابن خزيمة في صحيحه (1106) و غيره، و فيه من الفقه؛ جواز التنفل بعد الوتر. و هذا ما كان يفعله الصحابة رضي الله عنهم و يطبقونه؛
فعن قيس بن طلق قال: " زارنا أبي في يوم رمضان فأمسى عندنا وأفطر وقام بنا تلك الليلة وأوتر بنا، ثم انحدر إلى مسجده فصلى بأصحابه حتى بقي الوتر، ثم قدّم رجلا من أصحابه فقال: أوتر بأصحابك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا وتران في ليلة ".
أخرجه أبو داود (1439) و الترمذي (470) مختصرًا و حسّنه و النسائي (1679) و ابن خزيمة في (1101) و ابن حبان (2449) في صحيحيهما و رواه الضياء المقدسي في (المختارة 166) و قال: إسناده صحيح.
¥