وإذا اضطرّ الإنسان للأكل أو الشّرب من المحرّم كالميتة والخنزير والخمر حتّى ظنّ الهلاك جوعاً لزمه الأكل والشّرب، فإذا امتنع حتّى مات صار قاتلاً نفسه، بمنزلة من ترك أكل الخبز وشرب الماء في حال الإمكان، لأنّ تاركه ساعٍ في إهلاك نفسه، وقد قال اللّه تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم}.
وكذلك حكم الإكراه على أكل المحرّم، فلا يباح للمكره الامتناع من أكل الميتة أو الدّم أو لحم الخنزير في حالة الإكراه، لأنّ هذه الأشياء ممّا يباح عند الاضطرار لقوله تعالى: {إلاّ ما اضطررتم إليه} والاستثناء من التّحريم إباحة، وقد تحقّق الاضطرار بالإكراه، ولو امتنع عنه حتّى قتل يؤاخذ به ويعدّ منتحراً، لأنّه بالامتناع عنه صار ملقياً نفسه إلى التّهلكة.
aa ثانياً: ترك الحركة عند القدرة aa
6 - من ألقي في ماءٍ جارٍ أو راكدٍ لا يعدّ مغرقاً، كمنبسطٍ يمكنه الخلاص منه عادةً، فمكث فيه مضطجعاً مثلاً مختاراً لذلك حتّى هلك، يعتبر منتحراً وقاتلاً نفسه، ولذلك لا قود ولا دية على الّذي ألقاه في الماء عند عامّة العلماء، لأنّ هذا الفعل لم يقتله، وإنّما حصل الموت بلبثه فيه، وهو فعل نفسه، فلم يضمنه غيره.
كذلك إن تركه في نارٍ يمكنه الخلاص منها لقلّتها، أو لكونه في طرفٍ منها يمكنه الخروج بأدنى حركةٍ، فلم يخرج حتّى مات.
وفي وجهٍ عند الحنابلة: لو تركه في نارٍ يمكنه التّخلّص منها فلم يخرج يضمن، لأنّه جانٍ بالإلقاء المفضي إلى الموت.
وفارق الماء، لأنّه غير مهلكٍ بنفسه، ولهذا يدخله النّاس للسّباحة، أمّا النّار فيسيرها يهلك، ولأنّ النّار لها حرارة شديدة، فربّما أزعجته حرارتها عن معرفة ما يتخلّص به، أو أذهبت عقله بألمها وروعتها.
aa ثالثاً: ترك العلاج والتّداوي aa
7 - الامتناع من التّداوي في حالة المرض لا يعتبر انتحاراً عند عامّة الفقهاء، فمن كان مريضاً وامتنع من العلاج حتّى مات، لا يعتبر عاصياً، إذ لا يتحقّق بأنّه يشفيه.
كذلك لو ترك المجروح علاج جرحٍ مهلكٍ فمات لا يعتبر منتحراً، بحيث يجب القصاص على جارحه، إذ البرء غير موثوقٍ به وإن عالج.
أمّا إذا كان الجرح بسيطاً والعلاج موثوقاً به، كما لو ترك المجنيّ عليه عصب العرق، فإنّه يعتبر قد قتل نفسه، حتّى لا يسأل جارحه عن القتل عند الشّافعيّة.
وصرّح الحنابلة بخلافه، وقالوا: إن ترك شدّ الفصاد مع إمكانه لا يسقط الضّمان، كما لو جرح فترك مداواة جرحه.
ومع تصريح الحنفيّة بأنّ ترك العلاج لا يعتبر عصياناً، لأنّ البرء غير موثوقٍ به، قالوا: إن ضرب رجلاً بإبرةٍ في غير المقتل عمداً فمات، لا قود فيه فقد فصّلوا بين الجرح المهلك وغير المهلك الشّافعيّة، فيفهم منه أنّ ترك الجرح اليسير لنزف الدّم حتّى الموت يشبه الانتحار.
ولم نعثر على نصٍّ للمالكيّة في هذه المسألة.
aa حكمه التّكليفيّ aa
8 - الانتحار حرام بالاتّفاق، ويعتبر من أكبر الكبائر بعد الشّرك باللّه.
قال اللّه تعالى: {ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم اللّه إلاّ بالحقّ} وقال: {ولا تقتلوا أنفسكم إنّ اللّه كان بكم رحيماً}.
وقد قرّر الفقهاء أنّ المنتحر أعظم وزراً من قاتل غيره، وهو فاسق وباغٍ على نفسه، حتّى قال بعضهم: لا يغسّل ولا يصلّى عليه كالبغاة، وقيل: لا تقبل توبته تغليظاً عليه.
كما أنّ ظاهر بعض الأحاديث يدلّ على خلوده في النّار.
منها قوله " من تردّى من جبلٍ فقتل نفسه فهو في نار جهنّم يتردّى فيها خالداً مخلّداً فيها أبداً ".
وهناك حالات خاصّة تشبه الانتحار، لكنّه لا عقاب على مرتكبها، ولا يأثم فاعلها، لأنّها ليست انتحاراً في الواقع كالآتي:
أوّلاً: الانتقال من سبب موتٍ إلى آخر
9 - إذا وقع حريق في سفينةٍ، وعلم أنّه لو ظلّ فيها احترق، ولو وقع في الماء غرق.
فالجمهور» المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة، وهو قول أبي حنيفة «على أنّ له أن يختار أيّهما شاء.
فإذا رمى نفسه في الماء ومات جاز، ولا يعتبر ذلك انتحاراً محرّماً إذا استوى الأمران.
وقال الصّاحبان من الحنفيّة، وهو رواية عن أحمد: أنّه يلزمه المقام والصّبر، لأنّه إذا رمى نفسه في الماء كان موته بفعله، وإن أقام فموته بفعل غيره.
¥