كما أخرجه البزار و الطبراني من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
ورواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين، وهم عبيد بن حنين، و سعيد المقبري، و ثمامة بن عبد الله بن أنس، و أبو صالح، و محمد بن سيرين.
ولو لم يرد هذا الحديث إلا في صحيح البخاري، لكان ذلك كافياً للحكم عليه بالصحة لما علم من إجماع الأمة على تلقي أحاديثه بالقبول، ولم يستدرك هذا الحديث على البخاري أحد من أئمة الحديث، ولم يقدح في سنده أي منهم، بل هو عندهم مما جاء على شرط البخاري في أعلى درجات الصحة.
وحتى لو تفرد به أبو هريرة لما كان لطعنهم فيه من سبيل وحجة، لما ثبت من حجيته وجلالته وحفظه، ويمكن مراجعة ما كُتب حول هذا الصحابي الجليل في موضوع سابق بعنوان (أبو هريرة الصحابي المفترى عليه).
وأما عبيد بن حنين فهو ثقة لا مطعن فيه، ولم يذكره الحافظ في مقدمة الفتح فيمن تُكُلِّم فيهم من رجال البخاري، وحتى لو فرض أنه تفرد برواية الحديث عن أبي هريرة لقبل تفرده لأن تفرد مثله لا يقدح في صحة الحديث.
وأما كونه من أخبار الآحاد، فإن الأدلة شاهدة من كتاب الله، وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقوال السلف، بل وإجماعهم - كما نقله غير واحد كالشافعي و النووي و الآمدي وغيرهم - على الاحتجاج بحديث الآحاد، وقبول الاستدلال به في العقائد والعبادات على حد سواء، وهي أدلة كثيرة لا تحصى، وليس هذا مجال سردها، وقد سبق الكلام عنها في مواضيع مستقلة بعنوان (حجية خبر الآحاد، والشبهات حوله) (حديث الآحاد حجة في العقائد والأحكام) يمكن للقارئ الكريم الرجوع إليها، ففيها الكلام مستوفى.
غرابته عن الرأي والتشريع
وأما الادعاء بأنه غريب عن التشريع لأنه ينافي قاعدة تحريم الضار واجتناب النجاسة، فيرده بأن الحديث لم ينف ضرر الذباب بل أثبت ذلك حيث ذكر أن في أحد جناحيه داء، ولكنه زاد ببيان أن في الآخر شفاء، وأن ذلك الضرر يزول إذا غمس الذباب كله.
قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (4/ 112): " واعلم أن في الذباب عندهم قوة سمية يدل عليها الورم، والحكة العارضة عن لسعه، وهي بمنزلة السلاح، فإذا سقط فيما يؤذيه، اتقاه بسلاحه، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر من الشفاء، فيغمس كله في الماء والطعام، فيقابل المادة السمية المادة النافعة، فيزول ضررها، وهذا طب لا يهتدي إليه كبار الأطباء وأئمتهم، بل هو خارج من مشكاة النبوة، ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق يخضع لهذا العلاج، ويقر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق، وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوة البشرية ".
والقول بنجاسة الذباب لا دليل عليه، لأنه لا ملازمة بين الضرر والنجاسة، ولذا كان هذا الحديث من أدلة العلماء على أن الماء القليل لا ينجس بموت ما لا نفس له سائلة فيه، فالحديث لم يفَصِّل بين موت الذباب وحياته عند غمسه.
قال الإمام الخطابي رحمه الله في معالم السنن (5/ 340 - 341): " فيه من الفقه أن أجسام الحيوان طاهرة إلا ما دلت عليه السنة من الكلب وما ألحق به، وفيه دليل على أن ما لا نفس له سائلة إذا مات في الماء القليل لم ينجسه، وذلك أن غمس الذباب في الإناء قد يأتي عليه، فلو كان نجسه إذا مات فيه لم يأمر بذلك، لما فيه من تنجس الطعام وتضييع المال، وهذا قول عامة العلماء ".أهـ.
وقال ابن القيم في زاد المعاد 4/ 111 - 112: " هذا الحديث فيه أمران: أمر فقهي، وأمر طبي، فأما الفقهي، فهو دليل ظاهر الدلالة جداً على أن الذباب إذا مات في ماء أو مائع، فإنه لا ينجسه، وهذا قول جمهور العلماء، ولا يعرف في السلف مخالف في ذلك. ووجه الاستدلال به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بمقله، وهو غمسه في الطعام، ومعلوم أنه يموت من ذلك، ولا سيما إذا كان الطعام حاراً. فلو كان ينجسه لكان أمرا بإفساد الطعام، وهو - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بإصلاحه، ثم عدى هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة، كالنحلة والزنبور والعنكبوت وأشباه ذلك، إذ الحكم يعم بعموم علته، وينتفي لانتفاء سببه، فلما كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته، وكان ذلك مفقودا فيما لا دم له سائل انتفى الحكم
¥