وأخطر ما في الأمر تبني مذهب الكشف طائفةٌ من المنتسبين للتيار الإسلامي، ممن كانوا يعارضون هذا المذهب؛ ذلك أن رأيهم مسموع، وقولهم له محل من القبول، لغلبة التدين، وإذا تذكرنا أن أول السفور ونزع الحجاب في البلاد الإسلامية، كان بدؤه كشف الوجه، فهمنا لِمَ كان تبني هؤلاء لهذا القول خَطِراً؟
ولا شك أن باعث هذا التغير في موقف هؤلاء الأفاضل اشتباه في المسألة. فالقناعة تامة بأنهم محبون للخير، متبعون للدليل، لكن الخلاف فيها غرّهم، فظنوا صحة مذهب الكشف، وربما رجحوه، ومحل الخلل عدم تحرير المسألة بدقة. وهذا ما لوحظ على أصحاب هذا الاتجاه، والشبهة إن أتت من نص شرعي، فلا تُزال إلا بنص واستدلال شرعي، ومجرد الخلاف لا يسوِّغ الانتقاء؛ إذ ليس كل خلاف سائغ، بل ثمة خلاف مردود. والواضح أن النصوص المستدل بها على جواز الكشف، ليست من القوة بحيث ترجح على النصوص الموجبة للتغطية؛ ففي القرآن ثلاث آيات، هي آيات الحجاب، وهن قوله ـ تعالى ـ:
- {وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53].
ـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59].
ـ {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31].
هذه الآيات كلها تدل دلالة محكمة على وجوب غطاء الوجه، فإذا ثبت إحكامها؛ فكل ما عداها متشابه، يُرَدُّ إليها. ومعلوم أن النصوص منها المحكم، ومنها المتشابه، فالمتشابه يُرَدُّ إلى المحكم، هذا سبيل أهل الإيمان الراسخين في العلم، كما دل عليه قوله ـ تعالى ـ:
- {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
والمتبعون المتشابه:
- منهم القاصد، وهذا الذي في قلبه زيغ، يبتغي الفتنة بالتأويل، وهذا الذي حذر منه القرآن.
- ومنهم الواقع فيه بالخطأ، فهذا له أجر الاجتهاد، دون أجر الإصابة.
ففي مسألتنا هذه يوجد الصنفان، والمتأمل في نصوص الحجاب لا يملك إلا أن يحكم بأنها تدل على وجوب غطاء الوجه بدلالة محكمة، يصعب ويستحيل تعطيلها لأجل نصوص متشابهة، وإن كانت في نظر من قال بالجواز محكمة، لكن بيان الدلالة المحكمة لهذه الآيات، سيظهر صورة المسألة كما هي.
? الدلالة المحكمة لقولة ـ تعالى ـ: {وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53].
هذه الآية تدل دلالة محكمة على التغطية، وهذا لا خلاف فيه عند جميع العلماء؛ حيث اجتمع قولهم على هذه الدلالة، وخلافهم إنما جاء من جهة تعلق حكمها:
- فالموجبون التغطية على سائر النساء، مذهبهم في حكم الآية أنه عام.
- وأما المستحبون التغطية، فإن مذهبهم في الآية أنها خاصة بأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن.
والمقصود هنا: بيان أن دلالة الآية محكمة في الجهتين: في دلالتها على التغطية، وفي كونها تعم جميع النساء، ليست خاصة بأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن، وذلك يتبين من الأوجه التالية:
- الوجه الأول: أن الأمر بالحجاب في الآية معلل، والعلة هي: تحصيل طهارة القلب. وهذه العلة موجودة في سائر النساء، ليست قاصرة على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن؛ فكل النساء في حاجة إلى طهارة القلب، لا يدعي أحد غير هذا، وهي تحصل بالاحتجاب عن الرجال.
¥