- الوجه الثاني: أن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - إذا كن أمرن بالاحتجاب؛ لأجل تحصيل طهارة القلب، مع اصطفائهن، وانقطاع طمع الرجال منهن؛ فسائر النساء من باب أوْلى؛ لأنهن أحوج إلى الطهارة، وليس لهن منزلة أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن، ولأن للرجال فيهن مطمعاً.
- الوجه الثالث: أنه تقرر في الأصول: أن خطاب الواحد يعم الجميع، إلا إذا جاء استثناء، ولا استثناء هنا؛ فالخطاب وإن جاء في حق أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن، إلا أن الأصل في الحكم أنه عام؛ لأن المعنى الموجود فيهن، موجود في سائر النساء، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة، كقولي لامرأة واحدة» (1).
- الوجه الرابع: أن مبنى التخصيص بأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - عند القائلين به هو: الحرمة. وهذه العلة موجودة في بناته -صلى الله عليه وسلم -، فإما أن يدخلوهن في حكم الآية، وحينئذ ينتفي التخصيص، أو يمتنعوا من إدخالهن فتبطل العلة، وحينئذ لا وجه لحمل الآية على التخصيص؛ فكيفما كان فالتخصيص باطل.
- الوجه الخامس: أن القول بتخصيص حكم الآية بالأزواج، يلزم منه جواز الدخول على النساء ببيوتهن، وهو باطل، ولا قائل به.
فهذه الأوجه صريحة المعنى، محكمة الدلالة، وبها يظهر بطلان من خص حكم الآية أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن، وقد ذهب إلى القول بعموم حكم الآية جمع من المفسرين، وهم: ابن جرير، وابن العربي، والقرطبي، وابن كثير، والجصاص، والشوكاني، والشنقيطي، وحسنين مخلوف، وغيرهم.
? الدلالة المحكمة لقولة ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59].
هذه الآية دلالتها محكمة على التغطية، يتبين ذلك بالأوجه التالية:
- الوجه الأول: أن الجميع: أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم -، وبناته، ونساء المؤمنين: أُمرن بأمر واحد هو: إدناء الجلباب. فعُرف من ذلك أن صفة الإدناء للجميع واحدة، ولما كان من المجمع عليه: أن صفة إدناء أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - ـ رضوان الله عليهن ـ هو: الحجاب الكامل مع التغطية، فينتج من ذلك: أن صفة الإدناء عند البقية (بناته -صلى الله عليه وسلم -، ونساء المؤمنين) كصفته عند أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم -.
- الوجه الثاني: تفسير الإدناء بكشف الوجه، يلزم منه كشف أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - رضوان الله عليهن وجوههن، وهو باطل، ولا قائل به.
- الوجه الثالث: أنه قال: {يدنين عليهن}، فالفعل عُدِّي بـ «على»، وهو يستعمل لما يكون غطاؤه من أعلى إلى أسفل، فدل بذلك على أن الإدناء يكون من على الرأس منسدلاً حتى ينزل على الوجه، وبهذا المعنى قال جمع من أهل اللغة:
- كالزمخشري؛ حيث قال في تفسير هذه الآية: «يرخينها عليهن، ويغطين وجوههن، وأعطافهن، يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك إلى وجهك».
- وأبو حيان الأندلسي؛ حيث قال في تفسيرها: «{عليهن} شامل لجميع أجسادهن، أو {عليهن}، على وجوههن؛ لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه».
وإلى القول بدلالة الإدناء على التغطية ذهب كل من: ابن عباس، وعبيدة السلماني، ومحمد بن سيرين، وابن علية، وابن عون. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «أمر الله نساء المؤمنين، إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن، من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة»، وسند هذه الرواية صحيحة عند الأئمة: أحمد، والبخاري، وابن حجر. ورواها ابن جرير في تفسير الآية.
كما تظاهر المفسرون على تفسير الإدناء بتغطية الوجه، متابعة لابن عباس، منهم: ابن جرير، والجصاص، والكيا الهراس، والزمخشري، والبغوي، والقرطبي، والبيضاوي، والنسفي، وابن جزي الكلبي، وابن تيمية، وأبو حيان، وأبو السعود، والسيوطي، والآلوسي، والشوكاني، والقاسمي، والشنقيطي، وجلال الدين المحلي؛ فكل هؤلاء وغيرهم ذهبوا إلى تفسير الإدناء في الآية بتغطية الوجه؛ وذلك أنهم اعتمدوا في تفسيرها على قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الآنف.
¥