رواه البخاري في صحيحه برقم (117 و 665) و ما بين المعقوفين لأبي داود (1358) و النسائي (406 و 1342) و غيرهما من طريق سعيد بن جبير. و قد اتفقت الرواية عنه أنه صلى أربعًا بعد العشاء، كما اتفقت الرواية عن كريب و غيره الثلاثة عشر بعد الإستيقاظ. و هذا حديث صحيح ثابت لا مطعن فيه لأحد. و هو يصدّق قول الحافظ المنذري رحمه الله – فيما نقله الحافظ في (التلخيص 2/ 14) –: " قيل أكثر ما روي في صلاة الليل سبع عشرة وهي عدد ركعات اليوم والليلة ".
ثم وجدت مِن السلف مَن جزم بذلك؛ فقد روى عبد الرزاق في مصنفه (4710) عن طاووس قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي سبعة عشر ركعة من الليل "، و هذا مرسل صحيح على شرط الشيخين، و لعله تلقى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.
و في (مجمع الزوائد 2/ 272): " عن علي رضي الله عنه قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ست عشرة ركعة سوى المكتوبة " رواه عبد الله بن أحمد من زياداته ورجاله ثقات.اهـ
و روى محمد بن نصر من طريق المنهال بن عمرو عن علي بن عبد الله بن عباس في حديث المبيت زيادة أربع ركعات على ما ذُكر؛ فإنّ فيه: " فصلى العشاء ثم صلى أربع ركعات بعدها حتى لم يبق في المسجد غيره ثم انصرف " ذكره في (الفتح 2/ 484) فيكون مجموع ما صلى في تلك الليلة فيما بين صلاة العشاء إلى الفجر، إحدى و عشرين ركعة. و الله تعالى أعلم.
و عليه، فإن دعوى اقتصاره على إحدى عشرة ركعة دعوى ضعيفة، لا يسعفها أثر و لا يؤيّدها نظر ... نعم، أكثر الأحاديث في صلاته – صلى الله عليه و سلم – هي بين الإحدى عشر و الثلاثة عشر، و هذا ليس تقييدًا منه، كما بيّنّا سابقًا، و إنما هو اختيار لما يناسب قراءته و قيامه و الزمن الذي يستغرقه في المناجاة. و عليه، فينبغي أن نفرّق بين ما هو من هدْيه و هو ما يختاره لنفسه، و ما هو سنة و تشريع و اختيار منه لأمته.
قال ابن القيم رحمه الله في (الزاد 1/ 275) موضحًا هذا المعنى: " وليس مقصودنا إلا ذكر هديه الذي كان يفعله هو فإنه قبلة القصد وإليه التوجه في هذا الكتاب وعليه مدار التفتيش والطلب، وهذا شيء والجائز الذي لا ينكر فعله وتركه شيء، فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز ولما لا يجوز، وإنما مقصودنا فيه هدي النبي الذي كان يختاره لنفسه فإنه أكمل الهدي وأفضله، فإذا قلنا:لم يكن من هديه المداومة على القنوت في الفجر ولا الجهر بالبسملة،لم يدل ذلك على كراهية غيره ولا أنه بدعة ... ".اهـ
قلت: و قد ثبت أنه قال لمن سأله عن صلاة الليل: " صلِّ ما شئت "، و قال لآخر: " فإن الصلاة مشهودة متقبلة " يعني ما بين المغرب إلى الفجر ... و من المعلوم لدى طلبة العلم أنّ السنة القولية قاضية على السنة الفعلية، كما هو مقرر في الأصول. خاصة إذا ورد ما يثبت أن ذلك خاصّ به. و الشيخ الألباني رحمه الله نفسه قال في الركعتين اللتين صلاهما النبي صلى الله عليه و سلم بعد الوتر: " هاتان الركعتان يتنافيان في الظاهر مع قوله صلى الله عليه و سلم: " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا " رواه الشيخان و غيرهما، فاختلف العلماء في التوفيق بينهما و بين هذا الحديث على وجوه لم يترجح عندي شيء منها، و الأحوط الوقوف عند هذا القول لأنه شريعة عامة، و فعله صلى الله عليه و سلم للركعتين يحتمل الخصوصية."اهـ من رسالة (صلاة التراويح ص:93).
قلت: ولذلك اتفقوا على أن الأفضل في كيفية صلاة الليل أن تكون ركعتين ركعتين؛ على الرغم من ثبوت صفات أخرى عنه. قال الحافظ في (الفتح 3/ 20): " أنه الأفضل في حق الأمة لكونه أجاب به السائل "، و قال ابن نصر في (الوتر): " فاخترنا ما اختار هو لأمته وأجزنا فعل من اقتدى به ففعل مثل فعله "، و كذلك قال الإمام أحمد من قبل و سائر الأئمة سلفًا و خلفًا.
و من هديه - صلى الله عليه و سلم – الذي كان يختاره و لا يلزم به غير نفسه، طول القيام في صلاة الليل، و ما وقع لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه ليلةَ صلى معه دليل على أنّ الصحابة لم يعتادوا ذلك و قد نُقل عنهم أنهم كانوا يصلون بالمئين. و منهم من كان يصلي بما دون ذلك.
¥