كذلك لا دية عليه سواء أكان الانتحار عمداً أم خطأً عند جمهور الفقهاء» الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ورواية عن الحنابلة «لأنّ العقوبة تسقط بالموت، ولأنّ عامر بن الأكوع بارز مرحباً يوم خيبر، فرجع سيفه على نفسه فمات ولم يبلغنا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى فيه بديةٍ ولا غيرها، ولو وجبت لبيّنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولأنّه جنى على نفسه فلم يضمنه غيره، ولأنّ وجوب الدّية على العاقلة في الخطأ إنّما كان مواساةً للجاني وتخفيفاً عنه، وليس على الجاني هاهنا شيء يحتاج إلى الإعانة والمواساة، فلا وجه لإيجابه.
وفي روايةٍ عند الحنابلة أنّ على عاقلة المنتحر خطأً ديته لورثته، وبه قال الأوزاعيّ وإسحاق، لأنّها جناية خطأٍ، فكان عقلها» ديتها «على عاقلته كما لو قتل غيره.
فعلى هذه الرّواية إن كانت العاقلة الورثة لم يجب شيء، لأنّه لا يجب للإنسان شيء على نفسه، وإن كان بعضهم وارثاً سقط عنه ما يقابل نصيبه، وعليه ما زاد على نصيبه، وله ما بقي إن.
كان نصيبه من الدّين أكثر من الواجب عليه
27 - اختلفوا في وجوب الكفّارة، فقال الشّافعيّة في وجهٍ - وهو رأي الحنابلة في قتل الخطأ - تلزم الكفّارة من سوى الحربيّ مميّزاً كان أم لا، بقتل كلّ آدميٍّ من مسلمٍ - ولو في دار الحرب - وذمّيٍّ وجنينٍ وعبدٍ ونفسه عمداً أو خطأً.
هكذا عمّموا في وجوب الكفّارة، وتخرج من تركة المنتحر في العمد والخطأ.
واستدلّوا بعموم قوله تعالى: {ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ ودية مسلّمة إلى أهله} ولأنّه آدميّ مقتول خطأً، فوجبت الكفّارة على قاتله كما لو قتله غيره.
وقال الحنفيّة والمالكيّة وهو وجه عند الشّافعيّة: لا كفّارة على قاتل نفسه خطأً أو عمداً.
وهذا هو قول الحنابلة في العمد، لسقوط صلاحيّته للخطاب بموته، كما تسقط ديته عن العاقلة لورثته.
قال ابن قدامة: هذا أقرب إلى الصّواب إن شاء اللّه، فإنّ عامر بن الأكوع قتل نفسه خطأً ولم يأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه بكفّارةٍ.
وقوله تعالى: {ومن قتل مؤمناً خطأً} إنّما أريد به إذا قتل غيره، بدليل قوله تعالى: {ودية مسلّمة إلى أهله} وقاتل نفسه لا تجب فيه دية.
كذلك ردّ المالكيّة وجوب الكفّارة بدليل أنّ قوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} مخرج قاتل نفسه، لامتناع تصوّر هذا الجزء من الكفّارة، وإذا بطل الجزء بطل الكلّ.
aa ثالثاً: غسل المنتحر aa
28 - من قتل نفسه خطأً، كأن صوّب سيفه إلى عدوّه ليضربه به فأخطأ وأصاب نفسه ومات، غسّل وصلّي عليه بلا خلافٍ، كما عدّه بعضهم من الشّهداء.
وكذلك المنتحر عمداً، لأنّه لا يخرج عن الإسلام بسبب قتله نفسه عند الفقهاء كما سبق، ولهذا صرّحوا بوجوب غسله كغيره من المسلمين وادّعى الرّمليّ الإجماع عليه حيث قال: وغسله وتكفينه والصّلاة عليه وحمله ودفنه فروض كفايةٍ إجماعاً، للأمر به في الأخبار الصّحيحة، سواء في ذلك قاتل نفسه وغيره.
رابعاً: الصّلاة على المنتحر
29 - يرى جمهور الفقهاء» الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ' أنّ المنتحر يصلّى عليه، لأنّه لم يخرج عن الإسلام بسبب قتله نفسه كما تقدّم، ولما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «صلّوا على من قال لا إله إلاّ اللّه» ولأنّ الغسل والصّلاة متلازمان عند المالكيّة، فكلّ من وجب غسله وجبت الصّلاة عليه، وكلّ من لم يجب غسله لا تجب الصّلاة عليه.
وقال عمر بن عبد العزيز والأوزاعيّ - وهو رأي أبي يوسف من الحنفيّة، وصحّحه بعضهم - لا يصلّى على قاتل نفسه بحالٍ، لما روى جابر بن سمرة: «أنّه أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصلّ عليه» ولما روى أبو داود «أنّ رجلاً انطلق إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره عن رجلٍ قد مات قال: وما يدريك؟ قال: رأيته ينحر نفسه، قال: أنت رأيته؟ قال: نعم.
قال.
إذن لا أصلّي عليه».
وعلّله بعضهم بأنّ المنتحر لا توبة له فلا يصلّى عليه.
وقال الحنابلة: لا يصلّي الإمام على من قتل نفسه عمداً، ويصلّي عليه سائر النّاس.
أمّا عدم صلاة الإمام على المنتحر فلحديث جابر بن سمرة السّابق ذكره أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصلّ على قاتل نفسه، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم هو الإمام، فألحق به غيره من الأئمّة.
وأمّا صلاة سائر النّاس عليه، فلما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه حين امتنع عن الصّلاة على قاتل نفسه لم ينه عن الصّلاة عليه.
ولا يلزم من ترك صلاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ترك صلاة غيره، فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان في بدء الإسلام لا يصلّي على من عليه دين لا وفاء له، ويأمرهم بالصّلاة عليه.
كما يدلّ على هذا التّخصيص ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «أمّا أنا فلا أصلّي عليه»
وذكر في بعض كتب الحنابلة أنّ عدم صلاة الإمام على المنتحر أمر مستحسن، لكنّه لو صلّى عليه فلا بأس.
فقد ذكر في الإقناع: ولا يسنّ للإمام الأعظم وإمام كلّ قريةٍ - وهو واليها في القضاء - الصّلاة على قاتل نفسه عمداً، ولو صلّى عليه فلا بأس.
«خامساً: تكفين المنتحر ودفنه في مقابر المسلمين»
30 - اتّفق الفقهاء على وجوب تكفين الميّت المسلم ودفنه، وصرّحوا بأنّهما من فروض الكفاية كالصّلاة عليه وغسله، ومن ذلك المنتحر، لأنّ المنتحر لا يخرج عن الإسلام بارتكابه قتل نفسه كما مرّ.
¥