(الموسوعة الفقهية الكويتية) من أقوى المشاريع التي أُنتجت في هذا العصر، وهي تقع في (45 مجلد)، ويستفيد منها كثير من المشايخ والباحثين لشموليتها وسعة مراجعها، رجعت إليها للنظر في مسألة الأخذ من اللحية فوجدت أنهم حكوا الخلاف في ما زاد عن القبضة وذكروا آراء المذاهب الأربعة، ثم قالوا في آخر المسألة: "وأما الأخذ من اللحية وهي دون القبضة لغير تشوه ففي حاشية ابن عابدين: لم يبحه أحد" ثم انتقلوا للمسألة التي تليها.
والسؤال المهم هنا: هل خفي على هذه الموسوعة الضخمة ذلك القول؟ أم أنه فعلا قول غريب وليس له وجود في كتب الفقه؟!
حسناً .. قد نقول (عدم العلم ليس علماً بالعدم) وهذا كلام صحيح، فلذلك لم أعتمد على كلامهم، فبحثت وبحثت كثيراً عمن أجاز الأخذ من اللحية وهي دون القبضة من السلف لا من الخلف.
أعلم أنه يوجد من المعاصرين من يفتي بالجواز، مع أنهم قلة، لكني الآن أناقش حجم الخلاف فيها في (عهد السلف).
بمعنى لو سمعت حجة من أفتى بالجواز ربما تقول فعلاً كلام مقنع، لكني لا أناقش هذا، بل أقول: حتى لو كان كلاماً مقنعاً .. هل له سلف؟! أم قول غريب؟
الذي توصلت إليه من بحثي المتواضع أني لم أجد نصاً صريحاً يجيز ذلك .. إلا ما جاء عن الأئمة (الحسن البصري، وعطاء، واختاره الطبري) ولكن بشرط "ألا يفحش الأخذ منها".
مع أنك حين تتأمل نصوصهم وتعليلاتهم .. تجد أن المسألة شائكة وليست واضحة.
فمثلاً .. نقل ابن بطال في شرح البخاري عن الطبري قوله" وقال عطاء: لا بأس أن يأخذ من لحيته الشيء القليل من طولها وعرضها إذا كثرت". ثم ذكر بعدها أنه في الحج والعمرة فقط.
لاحظ (الشيء القليل) و (إذا كثرت) و (في الحج والعمرة فقط).
ثم قال الطبري بعد حكاية قول الحسن وعطاء: "وعلة قائلي هذه المقالة كراهية الشهرة في اللبس وغيره، فكذلك الشهرة في شعر اللحية".
ألا يفهم من هذا أن مرادهم بقاء لحية كثيرة، لكن ليست كثيرة جداً توجب الشهرة؟
ويؤكد هذا ما نقله ابن حجر في "الفتح" عن الطبري أيضاً حين قال عن الحسن وعطاء: "وحمل هؤلاء النهي على منع ما كانت الأعاجم تفعله من قصها وتخفيفها".
ثم قال ابن حجر عن الطبري: "واختار قول عطاء وقال: إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى أفحش طولها وعرضها فعرّض نفسه لمن يسخر به".
على أي حال .. من يجيز الأخذ من اللحية وهي دون القبضة يستند في الغالب إلى هؤلاء الأئمة الثلاثة -رحمهم الله-، وإذا تأملت كلامهم أيقنت أن مرادهم ليس ما يفعله بعض الشباب الآن (التخفيف لللحية الخفيفة!).
ثم لو سلمنا أن هؤلاء الثلاثة أجازوا ذلك .. فكم نسبتهم من بين بقية السلف؟!
أنت بنفسك إذا رجعت لنصوص السلف ومن بعدهم في هذه المسألة، ستجدها بهذا المعنى (يحرم حلق اللحية، لكن يجوز أخذ ما زاد عن القبضة) وهذا مفهومه أنه لا يجوز ما دون ذلك، بل أحياناً لا يتعرضون لذكر المسألة لكونها بديهية ومعروفة، فابن عمر إنما أخذ ما زاد عن القبضة، ولذلك أفتى السلف بالجواز.
وأنا أجزم يقيناً بأن الكثير ممن يتذرعون بالخلاف في هذه المسألة .. يجهلون هذه الحقيقة.!
ولكنهم سمعوا عالماً أفتى بها .. فاتبعوه بناء على المقولة الخاطئة "حط بينك وبين النار مطوع! "
وإلا فالواجب على طلبة العلم منهم أن يبحثوها بأنفسهم، ويعرفوا حجم الخلاف فيها، لا أن يكونوا مقلدين كالعوام.!
فإن اشتبهت عليهم استفتوا قلوبهم!
ثم لو سلمنا -جدلا- أنها من المشتبهات، مع أننا علمنا الآن أن معظم السلف يحرمون ذلك، بل نقل ابن عابدين الإجماع، لكن سلمنا أنها مشتبهة، فحري بالمسلم -فضلاً عن الملتزم، فضلاً عن الداعية والقدوة- أن يتجنبها، فهو أسلم لعرضه من ألسن الناس وكثرة تساؤلاتهم.
وأسلم لدينه، لأنه يدور بين "التحريم" و "الجواز". فهو إما وقع في "الإثم" أو "لم يقع". لأن الحق –كما تعلم– لا يتعدد، فهو عند الله واحد، إما أنه لا يجوز الأخذ، أو أنه يجوز.
بل أن المسألة أخطر من ذلك لأنها متكررة طيلة عمر الإنسان، وبعض الذين يرون "التحريم" يقولون: (لا صغيرة مع إصرار) أي أن الإصرار على الصغيرة يحولها إلى كبيرة من كبائر الذنوب، ويسمى حينئذ فاسق!
يا الله! يقع في كبيرة من كبائر الذنوب!
يعني أنها لا تغفر إلا بالتوبة!
¥