والأنكى عندما يغدو التعليم مقتصرا على المذكرات التي تتصف غالبا بقلة مادتها، وركاكة أسلوبها، وضحالة موضوعاتها، فلن يعود المتعلم إلى الأمهات أبدا، اللهم إلا في اقتطاف المعلومة على وجه السرعة في البحوث والرسائل العلمية.
ط- ومن العيوب إضاعة الوقت، فإنه لو بذل مثل هذا الوقت أو نحوه في التأليف والابتكار لكان أولى وأكثر نفعا.
ي- قد يؤدي الاختصار إلى أن يدمج الكتاب المختصر مع الأصل، فيصيران شيئا واحدا، ويضيع جهد المصنف للأصل، ويهمل ذكره، وهذه جناية علمية، ونكران للجميل، ونسبة للفضل إلى غير أهله،
والواجب المحافظة على الأصل، ونسبته إلى مصنفه لا إلى من اختصره.
وأكتفي بضرب مثال واحد على هذا الدمج بذكر كتاب مشهور متداول، وهو كتاب (سبل السلام شرح بلوغ المرام) حيث إن أصل هذا الكتاب ليس للصنعاني، وإنما هو للقاضي شرف الدين الحسين بن محمد المغربي اليماني، والصنعاني قام باختصار هذا الأصل الذي هو (البدر التمام شرح بلوغ المرام)، فهل من الإنصاف أن يقال: (سبل السلام شرح بلوغ المرام) أو يقال: (سبل السلام في اختصار البدر التمام شرح بلوغ المرام).
إن جل طلبة العلم الذين يدرسون هذا الكتاب لم يسمعوا بأصله، ولا بمؤلف الأصل، أليس هذا نكرانا لحقه؟
ضوابط الاختصار:
إن المقصود الأول بهذا البحث هو بيان ضوابط الاختصار في التأليف المنهجي، والتنبيه على قواعده.
إن كتب العلماء ومؤلفاتهم حمى، وعملهم حق محفوظ لهم، فليس لأحد أن يعتدي على هذا الحق، أو يصادره لنفسه، أو يعتسف في استغلاله، وإن الأمانة العلمية -وهي جزء من الأمانة الواجبة- تقتضي رد الحق إلى أهله، والاعتراف للفاضل بفضله، ونسبة العمل إلى عامله.
وهناك فئة من المختصرين لكتب العلماء هجموا على ما لا يحسنون، وتكلفوا ما لا يتقنون، يريد أحدهم أن يضرب بسيف غيره، ويستدفئ بثوبي زور، فيصدق عليهم القول: أراد أن يصل إلى داره فتسلق جدار جاره، والمثل: طار قبل أن يحوصل، أو تزبب وهو حصرم.
وأمثال هؤلاء لا يسمى عملهم اختصارا، ولا يعد من العلم في قبيل ولا دبير، بل هو تشويه وتمويه، فإن أحدهم يتصرف في مصنف غيره تصرف الجزار في أضحيته، فهم يضعفون الأقوال الراجحة، ويطمسون الحقائق الواضحة، ويدسون في المختصرات ما لا نسب بينه وبين الأصل، ونرى أحدهم يجعل كتاب غيره ميدانا للانتصار لرأيه، والانتقام لنفسه، فيستبدل عقيدة السلف بالتعطيل، وربما ضعف الصحيح، وصحح الضعيف، ولم يرغ للمؤلف حرمة، ولم يحفظ له حقا، ولم يقم للأمانة العلمية وزنا، فهل هذا اختصار؟
إن ثمة ضوابط وأسسا منهجية للاختصار دون مراعاتها، فإنه يفقد قيمته، وتضيع فائدته، ويصبح ضرره أكبر من نفعه.
وهذه هي أهم القواعد التي توصلت إليها بعد البحث والنظر: -يقصد قواعد وضوابط للاختصار - والله أعلم
1 - تحري حسن القصد، وسلامة النية في عمله، ورجاء نفع الأمة.
2 - الاستقصاء لمسائل الكتاب (الأصل) وفوائده، والاقتصار على حذف ما يغني مذكوره عن محذوفه، من التكرار، وتوضيح الواضح الجلي.
3 - المحافظة على المعاني التي قصدها المصنف، وصبها في قالب لغوي سهل، وحذف عويص اللغة وتعقيداتها إن وجدت.
4 - توضيح الأمور المشكلة والوجوه المحتملة، بإرجاع الضمائر إلى مراجعها، وإزالة الإشكال والإبهام بالمجاز بين، كأن تكون الكلمة اسما لأكثر من موضع، أو يكون الاسم يشترك فيه أكثر من راو. . . إلخ.
5 - عدم الإخلال بأدلة الكتاب (الأصل) وأفكاره الأساسية، مع حذف ما يبعد أو يندر وقوعه من الافتراضات البعيدة.
6 - حذف الأقوال الشاذة البين شذوذها، والآراء المبتدعة الواضح خطرها، وهذا ليس من العبث بالكتاب، بل من الإصلاح فيه، ومن تغيير المنكر، والنصح للمسلمين.
7 - عدم التحريف في أقوال المصنف، أو نسبة رأي أو مذهب إليه لم يقل به، ولو كان المذهب الحق، والرأي الصواب؛ فإن العدل يقتضي أن لا يقول قولا لم يقله، أو ينسب إليه مذهب لم يذهب إليه، إذ قد يذهب إلى ذلك بعض المختصرين، لتكثير سواد أهل الحق، وتأييد مذهبهم، غير أن هذه الغاية النبيلة لا تسوغ مثل هذا العمل القبيح الذي لا يعدو أن يكون كذبا، ولا يجوز أن نداوي الحمى بالطاعون.
¥