تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهذا أيضًا كسابقه؛ فإنَّ اقتباسات طه حسين قد سارتْ بذكْرها الرُّكْبان، واشْتُهر عنه أنَّه ممن يجحدُ العارية، لكنَّ جريمته في الفِكْر لا في حُلي الناس، وهذا كتابه عن الشعر الجاهلي، الذي يَعده أنصارُه مَفْخَرته العُظْمى، بل مَفخرة الأدب العربي في هذا العصر، ما زادَ فيه على أنْ أحيا من أقوال بعض المستشرقين ما ماتَ، وحرَّك من راكده ما سَكَن، ثم نسَبَ لنفسه الفضلَ كلَّه، ويأبَى الله إلا أن يكونَ - في واقع الأمر - قد نسَبَ لنفسه الجُرمَ كلَّه.

فماذا بَقِي للأديب، إنْ لم يكنْ له من هَذَين نصيبٌ؟!

بَقِي الضجيجُ والعجيج، واصطناعُ هيئة المجدِّد المظلوم في عصره، عصر الظُّلمات والجهالات فيما يزعم أنصاره، وارتداءُ مسوح شهيد الفِكر الذي يقدِّم نفسه - صباح مساء - قُربانًا في مذبح الحريَّة والتنوير!

والرجل - بلا شكٍّ - ليس مدفوعًا على حِرفة الأدب، ولا هو بالذي يُنكرُ اطلاعُه ومعرفته، ولكنَّ غاية أمرِه أن يكونَ أديبًا كعامَّة أُدباء عصره، أمَّا أنْ يكون عميد الأدب العربي الذي يُقام له ويُقعَد، فلا والله، إلاَّ أن تكونَ صُمُّ الجنادل نجومًا، وحبَّات الرمْل أقمارًا، والعيون الناضبة بحارًا، وطه للأدب العربي عميدًا!

قرأتُ في كتاب الدكتور الزيَّات: كيف كان طه حسين يَسعى وهو بعدُ أستاذ في الجامعة - عن طريق رفع تقرير إلى اللجنة المكلَّفة بوضْع برامج التعليم - إلى إدخال تعليم لغتين في كليَّة الآداب؛ اللغة اليونانيَّة لأهميَّتها لدارسي التاريخ والأدب والحضارة العالميَّة، واللغة القِبطيَّة لأهميَّتها لدارسي التاريخ والأدب والحضارة المصريَّة!

وقرأتُ فيه أيضًا: كيف كان حريصًا - وهو عميد لكلية الآداب في جامعة القاهرة - على التحكُّم في المقرَّرات التعليميَّة للجامعة، وعلى إدخال تعليم اللغات الأجنبيَّة، والأساطير والخُرافات الوثنيَّة، التي يسمُّونها ثقافة يونانيَّة، وعلى ولوج النساء إلى الجامعة، ومخالطتهنَّ الرجالَ فيها، وعلى غير ذلك؛ مما كان له أثرُه العميق في المجتمع المصري فيما بعدُ.

وقرأتُ في الكتاب أيضًا: كيف كان الرجل حريصًا على منصب المراقب العام للثقافة العامَّة في وزارة المعارف؛ لأنَّه كما يقول: "عَملٌ مُهِم وخطير، وفيه فرصة لتحقيق أفكارٍ في التعليم سجَّلتُ بعضها في كتاب: "مستقبل الثقافة في مصر"، هذا إنْ صحَّ ما نقلَه الزيَّات، وما إخاله إلاَّ صحيحًا.

ثم قرأتُ: كيف سَعَى إلى إنشاء جامعات ومعاهد خارج مصر، تُبَشِّر بأفكاره التغريبيَّة في الثقافة والتعليم، وكيف ربَّى أجيالاً من الطَّلبَة - نسجوا على منواله من بعده - على مبادئه الهدَّامة، التي مُلخَّصها: أنَّ نجاتنا في الالتحاق بالغرب، وإغذاذ السير وراءَه، إلى أن نصِلَ إلى ما وصَلَ إليه من حضارة ماديَّة عصريَّة، أو تنقطع أديانُنا وثقافتُنا وتميُّزُنا الحضاري دون ذلك.

وتساءلتُ بعد أنْ قرأتُ هذا كلَّه، وزدتُ عليه بعضَ ما كنتُ أعرفُ عن الرجل من قبلُ: لو لم يكنْ طه حسين دكتورًا متخرِّجًا من جامعة كبرى مشهود لها عند أهْل الشأن الأكاديمي، أكان يقدرُ على إنجاز نصف ما أنجزه، أو ثُلُثه أو عُشْره، أو أقل من ذلك؟!

نعم، كان يُمْكنه أن يكتبَ في الجرائد، وينشرَ في المجلات، ويبثَّ في الناس مؤلَّفاتٍ يعرضُ فيها عصارة ذِهْنه، ولُباب فِكْره، وكان الناس سيصفقون له في عَصْره - إن أعجبَهم إبداعَه.

ولكنَّه على كلِّ حال لن يكونَ إلا أديبًا من الأدباء، وناقدًا من النُّقَّاد، يتكلمُ كثيرًا كما يتكلَّم أصحاب المعارضة في المجالس النيابيَّة، ثم لا يكون إلا ما يقرِّره مَن لهم مقاليد الحُكْم، وإليهم المرجِع في وضْع المناهج، وصَقْل عقول الناشئة.

لستُ أدَّعي أنَّ الشهادة الأكاديميَّة عصًا سِحْريَّة تجعلُ الأسوار التي توقفُ السَّيْرَ خرابًا، وتحوِّل التلالَ التي تقطع الطريقَ رمْلاً وتُرابًا.

ولستُ أزعمُ أنَّ طه حسين اتَّكأ في صعوده على الشهادة وحدَها، وأنه لم يكنْ له - من المواقف السياسيَّة، والعلائق الاجتماعيَّة، والإسناد الأجنبي - ما يجعلُه في أنظار المتصرِّفين رجلاً ملائمًا؛ لتطبيق ما يريدون تطبيقَه في الأُمَّة؛ من أفكار ومناهجَ.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير