لستُ أدَّعي ذلك، ولكنَّني أعلمُ أنَّ الشهادة الأكاديميَّة صارتْ - في عُرْف القوم - التزكيةَ الوحيدة التي يقرون بها؛ للتمييز بين المحقِّ والمبْطِل، وبين المبتدئ والمنتهي، وبين الشادي والمختص.
ولطالما تساءلتُ: ما الذي يجعلُ الدعوات الحَدَاثيَّة الهَدَّامَة - في اللغة والأدب والدِّين - تنتشرُ في الأُمة منذ أكثر من قرن من الزمان كما تنتشرُ النار في الهشيم، على الرغم من كثرة الأقْلام التي حذَّرتْ من خطرِها، وكثرة المنابر التي هزَّتها حناجرُ الخطباء؛ إذ يبيِّنون حقيقةَ أمرِها؟!
لِمَ تنتشر هذه الدعوات والقائمون عليها ليسوا من فطاحلِ الفكْر، ولا جَهابذة الرأْي، وليسوا إذا قيسوا بمن يردُّ على باطلهم من العلماء والمفكَّرين، إلاَّ كالبقل في أصول النخْل، وحبَّات الرمْل إن قِيستْ بنجوم السماء؟!
ستقول أيُّها القارئ: ما أيسرَ الجواب عن سؤالك هذا! إنما انتشرتْ بقوة الحديد والنار! بثَّتْها في الأُمة قوى الاستعمار الغربي، ثم سَارَ على نهْجه في نشْرِها وحمايتها والمنافحة عنها بقوة السلطان أقوامٌ تركَهم الغرب بيننا ساهرين على حِفْظ تُراثه، وحماية مبادئه.
وأنا لستُ أنكِرُ هذا الجانب، ولا أبخسُه حقَّه، وهو عندي أول الأسباب وأعظمُها، ولكن للحديث عليه مجال من القول غير هذا الذي نحن فيه.
ولكنني تأمَّلتُ أصحابَ هذه الدعوات، فمنذ بداية العصر الحديث إلى يومنا هذا الذي نتلظَّى بأُوار فِتَنه، فوجدتُ أكثرَهم من أهْل الشهادات الجامعيَّة العُليا، يدخل أحدُهم الجامعة خَلْوًا من كلِّ عِلمٍ يعصمُه، صِفْرًا من كلِّ فِكرٍ يحميه ويحصِّنه، فيجد عند أساتذة الكلية مناهج مُسطرة، وتوجُّهات فكريَّة مُقرَّرة، تكتنفُها دعاوى عريضة، وتبجُّحات تنهدُّ الجبال من هولها، فلا يلبثُ المسكين أن ينساقَ وراء القوم فيما هم فيه، وإذا هو بعد سنوات قليلة قد تخرَّج من الجامعة، وأمسكَ بين أناملِه تلك الورقة السحريَّة، التي تؤهِّله للتأليف والنشر والخطابة، وتمكِّنه من أنْ يعتليَ مِنَصَّة التدريس، يبثُّ في طَلَبته ما أفعمه به أساتذتُه، فتكتمل الحلقة، ويستدير الزمان بأهْله.
وتأمَّلتُ حال العلماء والأدباء الذين وقفوا في وجْه هذه الدعوات الحَدَاثيَّة والإلحاديَّة؛ قديمًا وحديثًا، فرأيتُهم شموسًا وأقمارًا، يضيء فكرُهم سُدْفة الجَهل البهيم، ورأيتُهم بحارًا وأنهارًا، يطمُّ علمُهم فيافي البلاد، فيستنبت كلَّ غضٍّ من الحِكْمة، وكلَّ مُونقٍ من معاني الإيمان، ولكنَّهم - إلاَّ ما لا حُكم له من النادر - ليسوا من حَمَلة الشهادات، ولا هم ممن اكْتحَلتْ أعينُهم برؤية فصول الدراسة الجامعيَّة أصْلاً.
لقد جاء الغرب - منذ أكثر من قرن - بجَحافله إلى بلاد الإسلام، وعَلِمَ أنَّ المعركة ليستْ مقصورةً على ميادين الوغَى، وساحات الهيجاء، بل هي في الأفكار والمفاهيم والتصوُّرات، وقد تيقَّنَ حقَّ اليقين أنَّه ما أخرجَه من هذه البلاد أيَّام الحروب الصليبيَّة، إلاَّ أنَّه حين دخَلَ مزهوًّا بانتصاراته العسكريَّة، لم يَأْبه لصراع الأفكار، ولم يحفلْ أنْ يغيرَ مبادئ الناس، ويدجن أذهانَهم، ويستهوي قلوبَهم، فما عَتَّمَ أنْ خرَجَ مهزومًا، لا يلوي على شيء، حين تحوَّلتْ أفكارُ المسلمين ومبادئهم إلى عساكر وسلاح تدكُّ معاقِلَ الاحتلال الصليبي.
تيقَّن الغربُ ذلك وعَلِمَه، ولكنَّه وجَدَ أمامَه جامعاتٍ إسلاميَّة عريقَة، مُوغِلة في القِدَم، متجَذِّرة في حضارة الأُمة ودينِها وثقافتِها، وجَدَ الأزهر والزيتونة، والقرويين وابن يوسف، فحاوَلَ أن يطوِّعَها لمآربه، ويسخِّرَ شيوخَها وعلماءَها لأغراضه وخُططه، ولكنَّه وجَدَ أمامَه سدًّا منيعًا من المقاومة، وعَلِمَ أنَّه لن ينالَ مِن تلك الجامعات وأهْلها، إلاَّ بعد جُهْد جهيدٍ، ووقتٍ مديدٍ، وليس يملِكُ هذا، ولا تسمح نفسُه بذاك.
وقد استقرَّ في أذهان الغربيين أنَّ الذي يخطُّ طريقًا، أو ينشِئ سكَّة حديدٍ، فيواجهه جبلٌ قائمٌ، ولا يقْدِر على دَكِّ الصخور، وحفْرِ الأَصْلاد، ما عليه إلا أنْ يُغيرَ مَسْلَك الطريق، فيلتف حولَ الجبل، ويُكمل بناءَه بين السهول المنبسطة، التي لا تكلِّفه حَفْرًا ولا هَدمًا، وهذا الذي كان في أغلب بلاد الإسلام.
¥