تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وبالرغم مما ساد هذا العصر من اضطرابات سياسية، فقد شهدت فيه الأمة الإسلامية تطوراً حضارياً ونمواً اقتصادياً وازدهاراً في الحركة العلمية. إذ نشطت الدراسات الإسلامية نشاطاً ملحوظاً، فظهرت علوم القرآن كالتفسير والقراءات؛ وعني المسلمون بحديث الرسول وآثار الصحابة والتابعين، وجمعوا الفتاوى التي صدرت منهم عن اجتهاد شخصي حينما كانوا يستفتون في أمر لم يبينه القرآن أو السنة.

وبالإضافة إلى هذه الحركة العلمية النشيطة التي عمت معظم الأقطار الإسلامية، فإن المدينة - مقر مالك الذي قضى فيه حياته - قد امتازت عنها بأن كانت مهبط الوحي وموطن العلماء من أصحاب الرسول ومن خلفهم من التابعين، وهم الذين كان يرجع إليهم المسلمون من كل مكان إذا حزبهم أمر، أو تشابهت عليهم وجوه الرأي في مسألة من المسائل. وبذلك أصبحت للمدينة شهرة خاصة بالعلوم الإسلامية، من تفسير ومدارسة للحديث واستنباط للأحكام الشرعية؛ وتكونت مدرسة فقهية عرفت في التاريخ بـ» مدرسة المدينة «أو» الحجاز «كان الإمام مالك خير وارث لثقافتها في عصره وأحسن مبلِّغ لها فيما بعد إلى الأجيال المتتابعة.

- ثقافته وطريقة تلقيه للعلوم

بدأ مالك تعلمه مبكراً، فحفظ القرآن في صباه على عادة أكثر الأسر الإسلامية، وأحكم أداءه على نافع أحد القراء السبعة وإمام أهل المدينة. ثم أقبل على مجالس العلماء، فدرس كل ما يستعان به على فهم القرآن من "لسان العرب"، ومن ناسخ القرآن ومنسوخه، وأحكامه، ثم السنن المأثورة عن الرسول وسيرته ومغازيه؛ كما تلقى فتاوى الصحابة والتابعين، وهي من أهم الدعائم التي بني عليها مذهبه فيما بعد.

ولم يكتف مالك بما حصل عليه من هذه الفنون، بل تراه يحرص على أن يتلقَّى عن بعض شيوخه آراء الفرق المختلفة التي ظهرت في عصره، ووجوه الرد على أصحاب الأهواء على اختلافهم، وفقه الرأي. وهكذا ألم مالك أثناء تعلمه بثقافة إسلامية جامعة تكون الأسس التي ساعدته فيما بعد لأن يتبوأ مكانة الإمامة بالمدينة.

اعتمد مالك في تعلمه على طريقة الأخذ عن الأساتذة مشافهة، لأن العلوم لم يكتمل بعد تدوينها، باذلاً الجهد في الطلب متحمِّلاً في سبيله كل مشقة حتى أنه باع متاع بيته ليستمر في الطلب؛ كما غالب حدة بعض الشيوخ ليتلقى عنهم. قال مرة:» كنت آتي نافعاً نصف النهار وما تظلني شجرة من الشمس أتحين خروجه. فإذا خرج، أدعه ساعة كأني لم أره. ثم أتعرض له، فأسلم عليه وأدعه حتى إذا دخل أقول له: كيف قال ابن عمر في كذا؟ فيجيبني، وكان فيه حدَّة «. وبمثل هذا الجد ومواصلة الدرس والدأب على الطلب، تسنى لمالك أن يبلغ الذروة في السنة وفي الفقه. فعد فقيه الحجاز ونال من ثناء شيوخه والعلماء حظاً عظيماً، فقيل:» أيفتى ومالك في المدينة؟ «. ولم يؤثر عن مالك أنه رحل عن المدينة في سبيل ملاقاة علماء الأقطار الإسلامية والأخذ عنهم، بل اقتصر على التلقي عن علماء المدينة أو عمن وفد على الحجاز للحج، مع أن الرحلة كانت في ذلك الوقت من أهم وسائل العالم ولا سيما المحدِّث. وربما دفعه إلى ذلك اعتقاده أن مدينة الرسول هي مهد العلم وموطن عدد كبير من التابعين وقبلة علماء المسلمين. وفعلاً، فقد وجد مالك في هؤلاء المعين الذي لا ينضب والمنهل العذب الذي لا كدرة فيه وإيمانه بأن أولى العلماء بالإجماع هم أهل المدينة. وذلك أمر يشاطره فيه بعض معاصريه من العلماء أمثال الليث بن سعد الذي كتب إليه يقول:» ... وأما ما ذكرت من مقام الرسول بالمدينة ونزول القرآن بها عليه بين أصحابه، وما علمهم الله منه، وأن الناس صاروا تبعاً لهم فيه، فكما ذكرت كنت آتي ابن هرمز بكرة، فما أخرج من بيته حتى الليل «. وقد أخذ عنه الفقه واختلاف الناس في الفتية وطرق الرد على أهل الأهواء، وبذلك كان ابن هرمز أشد الناس أثراً في علم مالك الاعتقادي ومنهجه الكلامي.

- أخلاقه ومواهبه

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير