كان مالك كريم الخلق، رقيق الشمائل، حسن السمت، ذا هبة ووقار، متواضعاً، مقتدياً بأجلاء الصحابة والتابعين، ممتازاً بمواهب فكرية وعلمية ساعدته على تبوء مكانة الإمامة في الدين، وبحافظة كان يعتمدها في طلبه للعلم. حكى عن نفسه في هذا الصدد، فقال:» كنت آتي سعيد بن المسيب وعروة والقاسم وأبا سلمة وحمّاداً وسالماً. فأدور عليهم، فأسمع من كل واحد من الخمسين حديثاً إلى المئة، ثم أنصرف وقد حفظته كله من غير أن أخلط حديث هذا بحديث هذا «. وكان إلى كل ذلك صحيح التحري في مروياته فلا يقبل شيئاً منها إلا بعد التروي والنقد لأصحابها. قال:» لقد أدركت سبعين ممن يقولون: قال رسول الله عند هذه الأساطين، مشيراً إلى مسجد الرسول. فما أخذت عنهم شيئاً وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت مال، لكان أميناً؛ إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن «.
وقد أخلص مالك في طلب العلم؛ إذ طلبه لله لا يبغي به علواً ولا مراءاة، والتزم السنة والجادة الواضحة البينة؛ كما التزم التريث والأناة عند الإفتاء في ما يعرض له من المسائل. فكان يطيل التفكير ويردد النظر في المسألة قبل أن يجيب عنها، ولربما سهر من أجلها عامة ليلته كما ذكر عن نفسه. ولقد دفعه إلى هذا التثبت خشيته من أن يضل، واعتقاده أن ما يطلبه شديد الصلة بالدين.
- انتصاب مالك للتدريس والإفتاء
لم يمض طويل مدة على انكباب مالك على الطلب حتى أخذ مكانه بين علماء عصره وانتصب للتدريس والإفتاء بمجلس عمر بن الخطاب من مسجد رسول الله كأنما يرمز بذلك إلى متابعة هذا الصحابي الجليل في طريقته الاجتهادية. وكان موزعاً أوقاته بين رواية الحديث والإفتاء في ما يجدّ من المشاكل للمسلمين متباعداً كل البعد عن إبداء رأيه في ما يفترضه المفترضون. ولما ألح عليه المرض وانقطع عن الخروج إلى المسجد، توافد عليه الطلبة في بيته للتعلم والرواية. وكان مالك أثناء تصديه للتدريس والإفتاء ملتزماً الوقار متجنباً لغو القول تأدباً مع العلم والحديث، ناصحاً تلاميذه بذلك قائلاً لهم:» حق لمن طلب الحديث أن يكون فيه وقار وسكينة وخشية «.
وما زال الإمام مخلصاً في بث العلم كما كان عند تلقيه له، يؤمه الطلبة من كل جهات العالم الإسلامي مكرماً مهاباً حتى اشتد به المرض ووافته المنية في ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة هجرية. ودفن بالبقيع في يوم مشهود.
* كتاب "الموطإ" (الغرض من تأليفه)
عمد مالك - رحمه الله - إلى تأليف كتابه "الموطإ" ليجمع فيه ما صح عنده عن رسول الله وأقوال صحابته والتابعين وما عليه عمل أهل المدينة، ويودع فيه ما أخذه من مروياته من أحكام شرعية.
وقد اشتهر بين أكثر العلماء أنه ألفه بطلب من الخليفة أبي جعفر المنصور. قال عياض:» إن أبا جعفر المنصور قال لمالك: ضم هذا العلم يا أبا عبد الله ودونه كتباً، وتجنب فيها شدائد عبد الله بن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود، واقصد أواسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة «([3]).
روى مالك في كتابه ما سلم عنده في معيار النقد وجرب من جهات الصحة. ولذلك كله اتفق أئمة الدين والحديث على أن "الموطأ" هو أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى. وفي هذا عبارات مأثورة. قال ابن مهدي:» ما كتاب بعد كتاب الله أنفع للناس من "الموطإ" «؛ قال الشافعي:» ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صواباً من كتاب مالك «.
وقال أيضاً:» ما كتب الناس بعد القرآن شيئاً هو أنفع من "موطإ" مالك «؛ وقال أبو بكر بن العربي:» اعلموا - أنار الله أفئدتكم - أن "الموطأ" هو الأول و"اللباب" و"كتاب الجعفي" ([4]) هو الثاني في هذا الباب، وعليهما بناء الجميع كالقشيري والترمذي «([5]).
جمع الإمام مالك - رحمه الله - كتابه في نحو أربعين سنة ([6]). فقد أخرج ابن عبد البر عن عمر بن الواحد صاحب الأوزاعي أنه قال:» عرضنا على مالك "الموطأ" في أربعين يوماً، فقال: كتاب ألفته في أربعين سنة، أخذتموه في أربعين يوماً! ما أقل ما تفقهون فيه «! ([7]). وقد اشتمل في أول تأليفه على تسعة آلاف حديث، فلم يزل ينظر فيه في كل سنة، ويسقط منه حتى بقي منه هذا.
* تسميته بـ"الموطإ"
¥