وأما قوله: "إنها خرجتْ في ملأٍ من الناس تقاتِلُ عليًّا على غير ذنبٍ"، فهذا أولًا كذبٌ عليها؛ فإنَّها لم تخرجْ لقصْد القتال، ولا كان أيضًا طلحة والزبير قصْدهما قتال عليّ، ولو قُدِّرَ أنَّهم قَصَدوا القتال، فهذا القتال المذكور في قوله - تعالى -: ?وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ? [الحجرات: 9 - 10].
فجعَلَهم إخوةً مع الاقتتال، وإذا كان هذا ثابتًا لمن هو دون أولئك المؤمنين، فهم به أَوْلَى وأحْرَى!
وأمَّا قوله: "إنَّ المسلمين أجمعوا على قتْل عثمان".
فجوابه أنْ يُقالَ: هذا من أظهر الكذب وأبْيَنه؛ فإنَّ جماهير المسلمين لم يأمروا بقتْلِه، ولا شارَكوا في قتْلِه، ولا رَضوا بقتْلِه.
أمَّا أولًا؛ فلأنَّ أكثر المسلمين لم يكونوا في المدينة، بل كانوا بمكة واليمن والشام، والكوفة والبصرة وخُراسان، وأهلُ المدينة بعضُ المسلمين.
وأمَّا ثانيًا؛ فلأنَّ خيار المسلمين لم يدخلْ واحدٌ منهم في دَمِ عثمان؛ لا قَتَل ولا أمَرَ بقتْلِه، وإنما قتَلَه طائفة من المفْسِدين في الأرض مِن أوباش القبائل وأهْل الفِتَن، وكان عليّ - رضي الله عنه - يحلف دائمًا: "إنِّي ما قتلتُ عثمان، ولا مالأْتُ على قتْلِه"، ويقول: "اللهم الْعَنْ قتَلَة عثمان في البَرِّ والبحر، والسهل والجبل".
ثالثًا: مَن هو الذي نقَلَ هذا الإجماع من أهْل العلم؟ أم أنَّه يَكفي أنْ يأتي أحدُ الزنادقة ويخترعَ إجماعًا على أمرٍ يُدلل به على صِحَّة زَنْدَقَته وضَلاله، وما علينا إلا أن نُصدِّقَ ونتَّبِع؟
وأما قولُه: "إنَّ عائشة كانتْ في كلِّ وقتٍ تأمُرُ بقتْل عثمان، وتقولُ في كلِّ وقتٍ: اقتلوا نعثلًا، قتَلَ الله نعثلًا، ولَمَّا بلَغَها قتْلُه، فَرِحَتْ بذلك".
كان أعداءُ عثمان يسمُّونه: نعثلًا؛ تشبيهًا برجل من مصر، كان طويل اللِّحْية، اسمُه نَعْثَل، وقيل: النَّعْثَل: الشيخ الأحْمَقُ، وذَكَرُ الضِباع؛ "النهاية في غريب الحديث"، (5/ 177).
ثم يُقال للردِّ على هذا الكلام أولًا: أين النقلُ الثابت عن عائشة بذلك؟!
ويُقال ثانيًا: المنقول الثابت عنها يُكذِّب ذلك، ويُبيِّن أنَّها أنكرتْ قتْلَه، وذمَّتْ مَن قتَلَه، ودَعَتْ على أخيها محمد وغيره؛ لمشاركته في ذلك.
ويُقال ثالثًا: هبْ أنَّ أحدًا من الصحابة - عائشة أو غيرها - قال في ذلك على وجْه الغضب؛ لإنكاره بعضَ ما يُنكر، فليس قولُه حُجة، ولا يَقْدح ذلك في إيمان القائل ولا المقول له، بل قد يكون كلاهما وليًّا لله - تعالى - مِن أهْل الجنة، ويظنُّ أحدُهما جوازَ قتْلِ الآخر، بل يظنُّ كفْرَه، وهو مُخْطِئ في هذا الظنِّ.
ويُقال رابعًا: إنَّ هذا المنقول عن عائشة من القدْح في عثمان إنْ كان صحيحًا، فإمَّا أنْ يكون صوابًا أو خطَأً، فإنْ كان صوابًا، لم يُذْكرْ في مساوئ عائشة، وإنْ كان خطَأًلم يُذْكَر في مساوئ عثمان، والجمْعُ بين نقْص عائشة وعثمان باطلٌ قطعًا.
وأيضًا فعائشة ظهَرَ منها - مِن التألُّم لقتْل عثمان، والذمِّ لقَتَلَته، وطلبِ الانتقام منهم - ما يَقتضي الندمَ على ما يُنافي ذلك إنْ وجِد، كما ظهَرَ منها الندمُ على مَسيرها إلى "الجَمَل"، فإنْ كانَ نَدَمُها على ذلك يدلُّ على فضيلة عَلِيّ واعترافها له بالحقِّ، فكذلك هذا يدلُّ على فضيلة عثمان واعترافِها له بالحقِّ، وإلاَّ فلا.
وأيضًا فما ظهَرَ من عائشة وجمهور الصحابة، وجمهور المسلمين من الملام لعليّ أعظمُ مما ظهَرَ منهم من الملام لعثمان، فإنْ كان هذا حُجَّة في لوم عثمان، فهو حُجة في لوم عليّ، وإنْ لم يكنْ حُجةً في لوم عليّ، فليس حجةً في لوم عثمان، وإنْ كان المقصودُ بذلك القدْحَ في عائشة، لما لامتْ عثمان وعليًّا؛ فعائشة في ذلك مع جمهور الصحابة، وإنِ اختلفتْ درجات الملام.
وأمَّا قولُه: "إنْها سألتْ: مَن تولَّى الخلافة؟ فقالوا: عليّ، فخرجتْ لقِتاله على دمِ عثمان، فأيُّ ذنبٍ كان لعليّ في ذلك؟
¥